الأربعاء، 20 يونيو 2012

sgh

dggdgdss

السبت، 17 يوليو 2010

تمرد

سأكتب ماهو بالمقلوب
وما هو متناقض ومعتدل في آن واحد...هكذا تكون الكتابة الحره لا تأبه بالقوانين..
إنني مع صديقي القلم متمردان حين نكون في حضرة الورق..إني لي شخصيات شفافة هلامية تعيش في عالم الأحبار...تولد بفكره وتعيش على حافة السطر...وبسطوة اللحظة تقفز لتنتحر خارج الدفاتر لتطبع مئات من بقع الحبر على الطاولة...لتموت جفافاً
هكذا نكون انا والقلم متمردان خارجين عن القانون
إنني يا قلمي أعترف لك بخطيئة حب...
نعم...إنني سأقر أمامك شعوري الغريب...
أحب شخصاً وأكرهه في آن واحد
أقترب منه ثم أفر مبتعدتاً عنه
أريده ولا أريده.....إنني أعيش تناقضاتي بسلام...بعيدتاً عنه....كم من العمر مضى وانا انتظره وأنا لم أدركه حتى في أقصى بواطن أفكاري...ترى أخلقت من ضلعه
بعد أن خلق قبلي بأعوام؟؟؟ هكذا الاناث كثيروا التسائل إلا أنا فليس لي إلا سؤال واحد...كم سيطول الإنتظار لتأتي ونقتسم تفاحة الخطيئة بيننا

الأحد، 27 يونيو 2010

طائرة ورقية

لا تدعي البعد فأنك لست بعيد المنال أنت أتفه من أن تكون طائرة ورقية
تطير
تطير
وتطير
لسقطت على سطح البحيرة
وتذوب....
........
هكذا وجه السراب يبدأ وينتهي دون ملامح
يتوارى فيتوارى
لنكتشف إنه مجرد خيال مصدره الشمس
.....
أتعرف إن بينك وبين الدمى وجه تشابه
ألم تلاحظ
لا
ليس الجمود
انت لست بجامد
الجمود صفة الأقوياء
أنت أضعف من أن تكون ريشة طائرة في الهواء
تخلى عنها طائرها بحركة جناحيه
.....
عزيزي
إن للحياة أوجه وأنت ليس لك أي وجه فيها
لأنك لست بها أصلاً
هكذا قرر قلمي الكتابة عنك
لأنك مصدر إلهام الجهلاء
وإلهاب السخفاء
وندرة يتندر بها الأشقياء
كم أشفق عليك
أرحل فأنا أعتذر على ماسببته لك من جرح
أقصد ماسببته لك من كشط وليس جرح
لأنك أتفه من أن يكون بك الجرح
لأن الجرح وساماً على صدور الأوفياء
.....
أنفخ عليك
لتطير كرشه عالقة على نافذتي
وغبار فرش رتابته على أوراقي
فحتى الورق تنحى عنك لأنك أتفه من أن تكون
مجرد حرف كتب ومسح في آن واحد
......
طائرة تطير
وتطير
وتطير لتنتهي على سطح بحيرة
فتذوب

الأحد، 20 يونيو 2010

دم الحرمات

حفر بأظافرة الرقيقة التراب
حتى وصل قاع صلد كوجه ذاك الواقف أمامه
تسائل كيف للدود أن ينخر باطن الأرض الصلد دون كلل
وراح يحفر ويحفر بملعقة من نحاس في كل مكان
وفي كل حفرة يصدم بقاع صلد
توقف لحظة يتأمل لربما يجد خاطر فكرة تعينه على كسر هذا القاع الصلد
وفي أثناء الحفر وبينما كان هذه المرة يحفر بسكين
فجأة تزحزح التراب حتى بان لون قاني على سطح الرمال
أصابته هيتيريا خوف وذهول وراح يتفحص أنامله حتى وجدها سليمه تماما من أي قطرة دم
فجأة آتاه صوت من القاع يأن
صوت يشبه صوت الأنثى حين تأن أنين ولاده:
كيف لك أن تجرح عفتي ففي باطني مئات من الحرمات
فلما انتهكتها
صاح صفوان حتى امتلئ الخلاء بصوت لا مجيب له
فسقط سقطته مغشياً
فصحى
ليجد
إنه كان
حلم

الثلاثاء، 18 مايو 2010

سدرة النبق

كان هناك في الباحة سدرة كبيرة وارفة تنبض في عروقها الحياة
وكانت هناك طفلة تحوم بدراجتها الحمراء ذات الثلاثة أرجل
حول جذعها الكبير...
كبرت الشجرة لتكون شجرة عجوز
وكبرت الطفلة لتكون ذاكرة السدرة والباحة والبيت العتيق ذات الحجر القرميدي والمظلة المظللة بأوراق الزهرة المجنونة السخية بأزهارها الوردية في كل الفصول حيث تغطي وجه البلاط الأبيض
وفي فترات الغروب تعلو الضحكات وأصواتنا الطفولية وشغبنا وجنوننا وعبثنا حول المنزل منزلنا العتيق...

كبرت الطفلة لتكون ذاكرة الشجرة العجوز
كبرت لتكون ذاكرة الباحة الكبيرة وأوراق الزهرة المجنونة الوارفة بالحياة كل الفصول

......
أحم أحم..أسعل من شحوب الجو وصفارة المريب...ينفلت قلمي لحظة لينسكب حبرة على ورقتي)...
ثم أكمل الحديث)
.......

(tu ti la fiore fiore la patchouli..)
أنت الزهرة...زهرة الباتشولي

جملة ترجمتها في كل كتاباتي
كلما مرت في خاطري شهوة الحرف تنبض في وجداني الكلمات بكل اللغات
إن قلبي مليئ بالوفاء للذاكرة
ذاكرتي الأولى حيث أول صرخة حياة انطلقت مني حين أخرجوني من كيس أبيض غلفني به جسد والدتي حتى البحيرة ذاكرتي الأخيرة...
أتعلم يا سيدي الشفاف إنك تحتل كل كياني؟؟؟

وقفت...أمامها ...الشجرة العجوز شجرة النبق أحدثها ذكرياتي
تحركت بألفة حين مرت عليها نسمة ريح خفيفة فكادت تلمس قامتي النحيلة بأغصانها...طأطأت رأسي
فبكيت...دموع الباتشولي
دموع طفولتي وأصحابي ترى أين أنتم يا كل ذكرياتي
في باحات الغروب ومظلة الأحلام حيث نسجنا أحلامنها أين ضحكاتنا بكائنا ضجرنا وشوقنا حين التقينا بعد فراق قصير...
طفولتي ذاكرة المبللة بقطرات المطر
ورائحتة المعبقة في تراب حديقتنا الصغيرة وحيطان منزلنا وأحجار القرميد التي تزين تاج بابنا الحديدي...
أين
وأين
وأين


هكذا غدونا..مشتتون في بلدان فرقها القدر...لنغدوا ضحاياها ...
وبضعة صورة مشتتة مابين زمينين جمعتمها شجرة النبق
في منزلنا العتيق

السبت، 3 أبريل 2010

خديعة

خـــديعة



وضحة العدواني











مقدمــة

(أسطورة الباتشولي)


يقال أن العطر يشي بشخصية الإنسان.. فكم لي من العطر كي أكتشف ذاتك..

قال.. إن لزهرة الباتشولي أسطورة خلدها عاشق..
إستطرد..كانت زهرة تنبت في جبال على الحدود الفرنسية والإسبانية.. لها لون السماء في غمرة النور وطهر الماء في فترات الشروق.. اعتقلها عاشق في قنينة ليهديها لمعشوقته فخلدها العشق بعد الفناء رمزاً بين (بات).. (وشولي) رمز الحب.. الحب ذاته كان المحتفى به الوحيد بينهما..
قال.. بات .. أتعرفين.. إن المكان الذي يحتوينا كونٌ خلقه الله بلا بشر..
قالت.. شولي.. أعلم وأنت معلمي علمتني أن زمننا لا زمن فيه ومكاننا لا مكان له.. إننا حياة خلقها الله لتخلق ذاتها بذاتها..
قال.. كان عالمنا مليئا بالدخان حتى انتفى وكنا أنا وأنت والأرض والسماء نعيد خلق حياة دمرتها حضارة تدعى بنو إنسان..
قالت.. أعلم وأنت معلمي.. غدونا دخانا بلا أجساد نحرر ولا نتحرر لأننا لانزال حبيسي أجساد.. أجساد من دخان..
كانت السماء والأرض صفة هذا الوجود.. بعدما انتهى عالم الإنسان وانتفى.. جاء من بعد دمار حضارة كاملة.. عالم بنى ذاته وأرضه وسماءه وكائناته.. من دخان..
قال.. هنا بدأت قصتنا يا شولي..
نبتنا أنا وأنتِ على سفح جبلين تعانقا منذ لحظة الإنتفاء.. كانا جبلين مغروسين على حدود دولتين تدعى فرنسا وإسبانيا وها نحن ولدنا من رحم الطبيعة كي نعيد إستمرار وجه الحياة الآخر.. وجه لا يعرفه زمن هاتين الدولتين وأقرانهما..
أنت الزهره وأنا عطرها إعتقلنا عاشق قبل الفناء في قنينه وأستمرت حياتنا خارجها و الجسد.. فكلانا وجد الآخر..
تمددنا.. تمددنا حتى عشتِ وسكنت أنا بك يا معشوقتي.. كنت لك الروح وأنت لي.
قالت.. أعلم وأنت معلمي.. فلولاك لم أستمر فلولاك لأصبحت حبيسة قنينة من زمن الإنسان البعيد.. لولاك لكنت معتقلة العشق.. حبيسة الطمع.. وذات ذلك الكائن الإنسان..
قال.. أعلمك يا شولي وأتعلم.. لأنني لست سوى معك بداية هذا الزمان.. نحن نعيش من جديد أتينا من بعد حضارة الدمار.. خلقنا الله وبنينا أنفسنا وبنتنا الطبيعة وحررتك من قنينه واتخذني لجسدك روحا من الدخان.. لنصبح يا معشوقتي الأمان في زمن لا زمن له ومكان لا مكان له .. على أرض وسماء وحياة بنت ذاتها بذاتها.. نعيش في كون خلقة الله بعد دمار انتهاء العالم الأول..لنعيش كائنات من الدخان أنا روحك وأنت جسدي..نعيش كي تستمر الحياة فينا وبعدنا، حياة أصبحت لنا في وجه آخر..

ذاب بات في شولي ودخلا القنينة واستعادت وضعيتها مرة أخرى هناك على سفح بقايا جبلين احتضنا بعضهما منذ نهاية الحياة الأولى...


************









كان الجدول صافياً كقلبك تماماً شفافاً كعفويتك.. ألم أقل لك يا سيدي الشفاف بأنك تحتل معظم حياتي؟؟ أرى وجهي على صفحة الجدول الصافية وأحرك سطح الماء بحركة توتر ركود السطح فيتراءى لي وجهك المرسوم على جدار قلبي.. أحاول جمع وجهك لأروي عطش جوفي بملامحك.. لكن لانزلاق الماء حركة لا متناهية لتتسرب ملامحك من بين أناملي وتذوب مع جزيئات ماء الجدول النقي.. حتى نبتت زهرة وكان اسم الزهرة "باتشولي" فكانت أسطورة الباتشولي ألم أروها لك يا سيدي الشفاف؟؟



*************

















"لزهرة الباتشولي أسطورة كل سنه من فصل الشتاء.. اقتطفها عاشق كي يعتقلها في قنينة لتصبح عطر كل شتاء.. فقط من زهرة اعتقلها عاشق ذات لحظة عشق"

أمسكت "دينا" بالقلم في ليلة عيد الحب الخالي.. لتكتب "لمنصور" أسطورتها.. ونغمات فيروزية هادئة كانت تملأ غرفتها المضيئة على ضوء خافت كان مصدره شمعة.. كتبت..
ما الذي لم أفعلة للاحتفاظ بك.. حتى بعد فراقنا؟ وبالذات "فراقنا"؟
لقد تقمصت شخصية شهرزاد.. لتتذكرني مع طلوع كل فجر في حكاياها..
(غادة السمان)

وضعت يدها الباردة على رأسها لتلم ذوائب شعرها الأسود وتعود للكتابة مرة أخرى..

- كم كنت عفويا.. شيقا.. شهيا.. منفردا.. صامتا.. تلبس هدوئك بليل تغزله خصلات شعري الراكدة بسوادٍ مبهم.. كصمتك.

تنظر من نافذتها المطلة على فضاء شاسع الغياب.. والرحيل .. والصمت.. ثم أكملت كتابتها المتواترة..

- معك عرفت كيف تدوم اللحظة أبدية بطولها.. وكيف يكون الحبيب واحداً ومتعدداً في آن.. وكيف يصير الحب الافتراضي لوحة فنية خالدة..
(غادة السمان )

جمل اختزنتها الذاكرة من دواوين عدة كانت تحفظ أفضلها.. تمسك القلم بسبابتها وتقبض عليه بإبهامها وثمة رعشة شقية بدأت تجوس في أعماقها.. أخذت نفسا عميقا لتواصل الكتابة مرة أخرى..

- حبك لي افتراضي.. وفاؤك افتراضي.. وحدة الموت الافتراضي حقيقي كالتنفس..
(غادة السمان)

بآخر جملة تذكرت الموت.. أغمضت عيناها وهي تتخيل مشهد الموت المريب.. لتفتحها مرة أخرى وهي ساهمة واهمة كما كانت ترى قبل قليل.. انحنت على الورقة لتدون مرة أخرى بعضا من جملها وجملا من دواوين أخرى..

- وأصبحت أدق تفاصيلك سيرة أقبل عليها كل يوم.. وسفرٌ أهرب به عن أيامي..

ابتسمت لهذه الجملة الوليدة من عقلها لتنسب لها.. فتمنت لو كانت تكتب هكذا من قبل لتجمع نتاجها كله في ديوان وترسله لمنصور حتى يعرف كم أثر غيابه حتى على اهتماماتها..



**************














ودار قرص الذاكرة إلى الوراء..
تسند ظهرها على الكرسي حتى أصبح بينها وبين لوحة الليل طاولة وورقة.. وقلم.. وسفر.. تسلل صوت فيروز إليها كنسيم حقول دوار الشمس في الشمال.. وذاب الوقت في صحن الفراق الكوني المثير كالغموض.. وراحت تدندن معها أنشودة الحب الوفي على نغمات قلبها الذي لم يهدأ منذ ليلة الفراق الأول..

بينما كان الهاتف مسجى بالقرب من الأسطوانة.. وقفت على الشفة لألتفت ناحية الهاتف وأتساءل...(ترى أمازال على الهاتف؟؟أم أغلق الخط؟)

"بأيام البرد.. بأيام الشتي..
والرصيف بحيّره.. والشارع غريء..
تجي هاك البنت.. من بيتها العتيء..
ويألها انطريني وتنطر عالطريء
ويروح وينساها وتزبل بالشتي.."

يدور قرص الذاكرة وتعبر معها أوطان وبحار.. هناك عند ذلك التل الكبير عند أول نظرة وبسمة حيث كان الحب الأول والأخير.. "منصور" حيث كان العناق والعنف والبرد.. والليل الطويل التي كانت تقضيه خلف جدران كوخٍ قديم احتوى ليالي عشقهما البعيد.. البعيد..

تذكرت صوته الهادئ.. تذكرت جنونه الرزين.. تذكرت ثورانه بوجهها عندما تتجاهله ولو للحظة.. تذكرت حضنه المحيط الذي احتواها حين رأى دموعها الموجعة.. تذكرت طيور البجع عندما كانت تسبح برشاقة وجمال في البحيرة القريبة من كوخهما المؤقت في رحلة ريف على الحدود الفرنسية.. وتذكرت أيامها الطويلة التي قضتها في حيرة من أمر غيابه المباغت..
فتحت عينيها لتجد منصورها جالساً أمامها ذات لقاء.. حيث كانت الغيوم "راغبة وممتنعة.. لهطول المطر".. تنظر من خلف زجاج المقهى الذي اعتادت ارتياده قبل لقائها بمنصور مع الأصدقاء في فترات الراحة بعد يوم دراسة شاقة..

يسألها..
- كيف كان يومك..
- جميل كما ترى.. خاصة أنه لم يعد يتبقى للعودة إلى الوطن سوى شهر..
- أتريدين الرحيل يا دينا؟؟
- وكأنك تخلق لغيابي وجهاً آخر؟؟
ما لبث أن صمت حتى تنزلق الكلمات.. كحبات المطر بهدوء.. تنزلق بطريقها المتعرج في منعطف آخر..
تقاطع صمته..لتملأ فراغات شاغرة بين صمتٍ ونظرة ..
- في غياهب غموضك العفوي.. ما أصعب الرحيل..
تدق ساعته مع أجراس الكنيسة المجاورة للمقهى لتمتلئ المدينة الصغيرة بأصوات أجراس الكنائس من كل ناحية..
يقول وهو يستعد للنهوض عن الكرسي الذي أمامها...
- ربما أراك ما قبل الرحيل..
- ماذا؟؟ ربما!!
- نعم.. وخاصة في هذه الأيام أخضع لاختبارات في أحد البنوك الكبير في العاصمة.. حينها لن أقوى على امتلاك وقتي..

ألقى التحية ورحل أمام دهشتها وحيرتها التي بدأت تملأ رأسها الصغير بالظنون..ترى أهكذا يغلق الكلام..؟؟
تفتح عينيها على ضوء الشمعة المتخاذل..المرتجف بوهن.. وثمة دمعة فرت من قفص أهدابها.. فأخذت تعيد قراءة ما كتبته.. ثم تعود للكتابة مرة أخرى.. وفي نفسها تردد وهي تعود للكتابة.. "حتماً سيقرأ تلك الكلمات ويعرف مدى تأثيره في روحي"...
ربما!!
تكون رجلاً مخلوقا من الصدفة شفافا كالماء وأعلم مدى كل بعد فيك.. تتركني هكذا بصمتك المرعب ووحشة الغربة تتواطأ مع الرحيل.. إنك حتماً جئت لتلغيني وتجردني من ممتلكاتي وحقوقي في حب خلق كي يكون في حياته عالم مختلف.. لذا يا سيدي الشفاف لمَ أتيتني؟؟ لمَ سألت عن عنواني؟؟ لمَ ظهرت في طريقي؟؟ أجب عن أسئلتي دون اضطراب..

ترفع رأسها المملوء بالاضطرابات وصخب حروف تبحث عن أماكنها على الورق.. تمسح دمعتها الهاربة وهي تبحث في أرجاء الغرفة عن وجه حبيبها منصور لربما ترتسم ملامحه في مكانٍ ما هنا في الغرفة..
ثم تمسك القلم وثمة أمنية صغيرة في قلبها "لو كنت نحاته لنحتُ ملامحه حتى على أصغر أشيائي فقط كي أشعر بوجوده ولو كان لذلك الوجود سمة طيف" ..

فكتبت...
حضورك يدخلني في مدار الزمن..وخارج نطاق الواقع.. فتخلق مني خيالاً تهبه للنسيان مكرمة.. ثم تدخل في غياهب عالم الغروب الوحشي وتغيب دونما سبب..
إنني أهم بقراءة عينيك فأتوه الطريق.. نعم ما أصعب الرحيل في عينيك.. قد يكون عشقي لك خارج منطقي الرسمي وتحول أفكارٍ رسخت منذ الأزل.. اقتحمتني وبسطت حدودي وأسرتني خلف قصور أرضك الحلم.. فطمعت بامتلاكي ضمن ما رأت عيناك كي يزيدك فخراً أمام نفسك ويزيد من أوسمتك العشقية..
فبرغم ارتباكي الموشي.. جئت إليك بنهم امرأة عمرها الجفاء تغمر مسافات مدى البعد بجنون بحرٍ هاج ينكب عليك..

تنهض دينا من كرسي اعترافاتها العارية على الورق.. وخلف تلك النافذة المكشوفة يقف ليل عيد الحب مبهماً على رصيف مهجور وساحة وقلعة بعيدة.. نائية..تشارك الليل حماقة التجسس على مشاعرها وهي تتعرى كلمةً كلمة ..
- ترى أهو اختبار لمدى صبري؟ أم قياس لمدى حبي..؟ ربما!!.. لذلك لابد وأن تعرف بأنني سوف أبادلك الصبر بصبر..

ينثر القلم سائل الحبر على آخر كلمة ويسيل باتجاهات متفرقة حتى ينتحر عند نهاية الورقة ويجف لونه الأزرق على طاولة الاعتراف في ليلة حب غاب عنها القمر..

تعريها نظرة غائبة في عينيه فيسألها..
- لمَ السرحان؟؟
فيواصل .. بعد صمتها مرة أخرى..
- كفاك سرحاناً..
تجيب وثمة عبرة تخونها أمام دهشته..
- ربما الخوف أخذني إلى المجهول...
- اتركي الأمور تسير كما هي فلا تأخذيها بحساسية مفرطة ها أنا معك وبقربك فلما الخوف إذن..
- لا أعلم أشعر بشيء سينتهي وستكون هناك نهاية وفراق.. و...
يقاطعها..
- كفي عن التفكير بذلك ودعي الأمور تسير كما هي.. ثم ولماذا تقولين هكذا؟؟
- لا أعرف فقط.. فقط لا أريد فراقك يا منصور..ففكرة الفراق أصبحت تؤرقني.. تقتلني..

أخذت تبكي من هواجسها ليضمها على صدره ويحتويها بذراعيه المحيط.. وحده منصورها قادر على أن يحتويها ويلملمها.. ترى أسيتركها حقاً.. بدأ الهاجس اللعين يشتعل ببطء في أعماقها دونما توقف.. يمسح دموعها ويقبلها وهو يعدها..

- لن أتركك.. وكفي من هذه الأفكار اللعينة.. وتعالي لنذهب إلى ساحة الحمام كي نقوم بجولة حب فاليوم هو عيد الحب..

تمسح دمعتها حين تذكرت يدا منصورها تمسح دموعها الواشية فلم تغالب بكائها وأخذت تبكي وحدتها.. تبكي حنينها.. تبكي غيابة .. تبكي ذكراه.. وتبكي كل شيء.. كان معها وكانت بقربه وبين يديه.. ترمي القلم على الطاولة وتبعثر أوراقها الصامتة.. وتواصل البكاء حتى شق النور ثوب الليل ليبدأ عيد الحب بحلته الحمراء وعشاقه المحتفى بهم.. وهي الوحيدة البعيدة النائية كتلك القلعة تشاركها حماقة التجسس على القلوب وهي تتعرى قطرة.. قطرة..

تمسك بديوان غادة السمان.. تسترق السمع إلى نغمة حب هاربة من نافذة أحد المحتفى بهم بعيد الحب ربما كان يستعد للقاء معشوقته.. تقلب صفحات الديوان وهي مسترخية على الأريكة التي شاركتها مسرحية ليلها الحزين..وتقرأ..

"أريد أن أهرب من كل شيء إلى حبك.. أريد أن أكتب لك رسائل الحب.. ألا يقضي الليل وقته في كتابة رسائل الحب إلى النهار؟؟ لأنهما لا يلتقيان.."

تغمض عينيها وهي تردد تلك الأبيات.. فيحيطها حباً ذات ليلة هربوا فيها من سطوة برد جاب فرنسا بأكملها.. فرصة ليلتصق كل عاشق بعاشقة استمداداً للدفء والحب تحت معطف أسود ثقيل.. تلتفت ناحيته..

- يعجبني كسلك اللذيذ وصمتك الشهي.. أعطني من دفئك أكثر أريد أن أبادلك الكسل وأستلذ بصمتك الشهي.. حبيبي..

تنعس عيناها وهي على صدره الدافئ.. يداعب شعرها الأملس المتناثر عليه وهو يهمس لها..
- مرحباً بك وأهلاً في عالم كسلي..

تفتح عينيها مرتعشة تبحث عن يد من كان بقربها ذات شتاء ليلة حب.. وهي على كرسيها المتحرك يسقط ديوان السمان من يدها فتنهض مرتبكة منتفضة وفي حالة تناقض.. فتمسك بالهاتف وتدير قرص الأرقام المتحفزة لطلبها المتردد.. وعلى الناحية الأخرى يأتي صوته كسولاً طارداً للنعاس ربما قد كان نائماً.. وليكن فليذق الحرمان ولو لدقائق قليلة مزعجة.. ودونما شعور أغلقت الهاتف وهي تتنفس بسرعة وصعوبة لترمي جسدها المنهك على السرير مرة أخرى وتغمض عينيها هاربةً نفسها من نفسها.. تجري دونما توقف تجري بضياع.. لقد سمعت صوته الناعس ففزعت من أن يخونها صوتها فيفر منها ليعانق أذنه.. لكنها أغلقت الخط.. قطعت الطريق عن صوتها الخائن حتى لا يفضح ضعفها.. ويكشف شوقها أمام شخص لم يسأل عنها منذ ليلة فراقهما الأول..

من جديد تمسك بالقلم وهي تحاول ضبط الجمل مرة أخرى لترمي بحملها المثقل على ضلوع قلبها كي ترتاح من كم المشاعر التي تقف خلف صدرها تنتظر لحظة الانتظار.. فتكتب..

"كان رجل يعبرني آلاف الأميال من الواقع إلى الخيال.. أتى من زمن النسيان..أتى كي يوعيني من تجاهلي له ونسياني.. أتى كي يضعني في البداية ثم يرحل إلى موعدٍ قد ترتبه الأيام أو الأقدار صدفة.. وما أصعب الانتظار..

عشقته محنكاً أرهقته الحياة فأخذت منه الكثير.. فهو لا يهوى سوى الانتصارات الكبيرة الصعبة.. لذا وجدت له من نفسي أرضاً من أراضي انتصاراته ليكمل من بعدي المسير..

خارج نطاق الحلم جربت فيه فلسفتي بالحياة.. فاحترت حيث كان هو لي القدر ذاته..
كان رجل الظرف زمناً..
كان رجل الصمت اللذيذ..
كان رجل الفلسفة العفوية التي تكمن في ذاكرة لقائنا الأول.. كان..وكان.. وكان.. كل ذلك تحت عنوان رجل الظرف والزمان..

له ذلك الحضور الفذّ القوى الذي يفاجئني.. وله تلك الهيئة الأنيقة البسيطة "كم أنت رائع حين تدهشني بحضورٍ يشبهك.. ألا تعلم؟؟ بأنني أعشق كل شيء يشبهك؟؟"
...ذات مساء وأنا أستعد لذهابٍ خارج نطاقه الزمني.. لوقت خارج العادة.. لموعدٍ آخر يجمعنا معاً ونحن لسنا معاً.. تفصلنا دقائق الزمن.. وكنت أتأملك بصمت وخلسة.. كي لا افتضح أمام تلك النظرات التي كانت تراقبني من بعيد..جئت بكامل أناقتي التي ليست سوى فلسفة جمالية تقدر الأشياء.. كنت تلاحقني بنظراتٍ هاربة تجاهلتها كي لا أقع تحت سطوتها.. بحضورك يا حبيبي ترهنني تحت سيطرت وجودك المجاهر بكل شيء.. فبوجودك تلغي عالماً كاملاً من الرجال فلا أرى سواك..
وبوجودك تلغيني عن خارطة هذا المساء الحافل بنا نحن الاثنين فقط وسط ضجيج الحضور.. في كلتا الحالتين أنت المختلف غيرت رسمية العادة بمنطقك العقلي المثير..

ترى أهمت به حباً.. وهو لا يزال يقف عند البداية؟؟...مستحيل!! أن تودي بي مشاعري إلى حد الجنون والتهور بي أمامه.. فتنهيني..

وأنا أقلب صفحات الذاكرة أمعن النظر في ملامحك الحادة حيث جرحي..استدرج ما بي من إحساس ضئيل يكاد ينقطع وصله مرةً أخرى.. أعيد النظر وأتذكر آخر لقاء تم بيننا..

كان مميزاً وكنت معه الأجمل.. كان ملكاً وكنت بحوزته أجمل أميرة جلسنا على عرش لحظتنا نتأمل البحيرة الهادئة بصمت.. وكنت أعاتبه بصمتي عن لحظة غضب كانت بيننا.. كان يعشق هدوئي أظنه يعشق تأمل هدوئي.. ربما ليجد ذاته في هدوئي؟؟ لقد كان لجمال الطبيعة لون أضاف للحظتنا لونا مختلفا بيننا..
- ما كنت أظن أن يكون لهذا المكان حسٌ آخر يغيب عن ذهن كل من يمر عليه دون اكتراث..
أقول له دون أن أستمع لرده.. وأنا أنظر إلى البحيرة وطائر البجع وهو يمر بقربنا بعنجهية دون اكتراث لوجودنا..
- كيف تصف منظر هذه البجعة وهي تسبح بهذه الرشاقة والجمال؟
يجيبني وكأن صوته آتٍ من بعيد..
- الجمال.. الجاذبية....
أقاطعه..
- عندما مرت بمحاذاتنا كانت ترانا دون اكتراث منها لوجودنا.. كأنها ملكة من حولها حاشية لا وجود لها سوى اكتمال لمشهد موكبٍ افتراضيٍ لها..
يرد مبتسماً لوصفي..
- وربما لأنني لا أهتم لهذا الوصف الدقيق لكثرة الأرقام المزدحمة في رأسي..

رأيت بالناحية الأخرى رجلاً كان يقف بين مجموعة من أناس تتفرج عليه وهو يستعرض قدرته على جمع طيور الحمام له كي يغطيه.. كان عرضاً رخيصاً لجذب الأنظار والنقود المعدنية.. وقفت بجانبه كي أقلده نظر إلي بثقة وكأنه يقول لن تقدري على استمالة حمامة واحدة..استفزتني تلك النظرة فوقفت كي اثبت له إنني قادرة على جذب كل الحمامات التي عليه وقفت بجانبه ولم أحظ بحمامة واحدة حتى أحسست بالحرج وبالحقيقة يا حبيبي إنني كنت أود في كل ذلك أن أثبت قدرتي أمامك فقط لا غير.. كم كان غباء مني مجرد التفكير بذلك.. وأثبت لنفسي بعد ذلك بأنني أيضاً عاجزة على استمالة قلبك إلي ولو حتى نبضة منه أشعرتك بي..
كم أعشقه حد التصور وحد الذاكرة.. كم كان أبسط من وجدته معقداً في هذه الحياة وأسهل من وجدته صعباً رغم كل ذلك...

معك أحب مخالفة المألوف ودخول شيء جديد يخالف هذه الحياة المتكررة فأعشق معك الأصعب.. والأعقد.. والأعمق عتمة في ذلك المجهول..

فإني أعشقك حد التزمت..وحد التمرد في طبعي.. وحد ضعفي الأنثوي حيث أكون معك بهذا الضعف اللذيذ المختلف حين تراني.. فلا أشعر بأنوثتي إلا بين تلك الأهداب الحادة فأشعر معك بيقيني بنفسي.. نعم أنت رجل خلق من المستحيل كي تكون نصيبي الأصعب..

ثمة قارة للزمن تكمن في عقولنا وتدركنا أيها الغائب المستتر في ضمائرنا أما حانت اللحظة أم انهارت وازدادت انهياراً تحت أقدامنا...

وثمة شيء يغتالني ببطء ساعة.. شيء يضجرني..كل شيء في هذا المكان بدأ يضجرني ويربكني في مجرى هذا القدر الأخرس..

يغيبني المنطق تحت مستوى العقل فأجهل ما أنا فيه ومن أنا.. تتحرر النقاط متباعدة في صفحات شاسعة الفراغ داخل عالم الواقع وثرثرة صفحاتٍ خامدة في أملٍ بعيد..

ذات موعد ...
طلبته بذات المقهى الذي جمع لقائنا الأول فكان جوابه..
- لا أعلم ربما سنلتقي.. إنني مزدحم..
- !!!
بدهشة أقول..
- لكن أريد أن أراك قبل الرحيل.. فلم يتبق لرحيلي سوى أيام.. أريد أن أراك ولو لدقائق فقط!!
- سأعيد الاتصال بك لا حقاً...
ثم أغلق الخط أمام إلحاحي..

"كم هو صعب حين تشعر بمن ستفقده حتماً.. وهو مازال أمام عينيك يرحل ببطء قاتل.. يغتال كل إحساس جميل ولد فيك"

سرت بخطواتي المستسلمة لقدر ما ربما هو الفراق.. أعاند نفسي وأصمد أمام ضميري الأحمق بقوه تكاد أن تتهاوى.. وأرفض الاستماع لهواجسي.. شيء بدأ ينهار بداخلي.. وأنا أسير خطوة خطوة نحو النهاية الافتراضية..

ذهبت أبحث عن شيء للذكرى وكتبت رسالة بخط يدي تتحدث له عن ما كنت أشعر به تجاهه.. واشتريت له هدية متواضعة دسست فيها الرسالة بعد أن وضعتها في ظرف أنيق وعطرته بعطري المفضل "باتشولي " وقالب حلوى فاخرة في علبة صغيرة منسقة.. فقط حيال أمر الفراق لم يتبق لي سوى أشياء للذكرى كي تبقى..
تسير الساعة والوقت يرحل واليوم يدركني.. وهاجس عنيد في أعماقي يصرخ " لن يأتي.. لن يأتي" .. أعانده وأسير باتجاه الموعد الخالي بلهفة المفقود.. وأتقاضى مشاعري الملتهبة وتوتر تفكيري.. وألملم بعثرتي وأسير باتجاه موعدي الخالي..

دخلت إلى مقهى اللقاء خلسة من مشاعري المتحفزة لموقف ما قد يباغتني.. أتأمل حدسي "ربما سيأتي.. لا بد أنه سيأتي.. لا بد أن يأتي"..

أقترب من طاولة لقائنا الأول فأجدها مشغولة بعشيقين آخرين سبقانا إليها.. ربما لأنني تأخرت على الموعد أو ربما أتى ورحل أو أنه ينتظرني بالجهة الأخرى.. تفحصت المكان بعينين قريبتين من اليأس ونفس مهيأة للخيبة.. أشد بيدي المبللتين بالعرق على كيس الهدايا وأجلس على طاولة أخرى هي الوحيدة التي كانت تنتظرني من الموعد..

يقترب مني النادل ليسألني بأدب عن طلبي وهو يمعن النظر بملامحي التي بدت مألوفة لديه منذ الموعد الأول.. ولكن أنا اليوم لوحدي انتظر شخصاً لن يأتي.. لن يأتي.. لن يأتي..

أنظر إلى النادل بعينين فارغتين من الأمل وأطلب منه كأساً من العصير فينصرف لإعداد طلبي..

أرى بعض الوجوه حين غادرها الصمت وبدأت تخالسني دمعة متمردة تصيح بي "لن يأتي.. لن يأتي" أنظر من النافذة وأترقب جميع الوجوه العابرة قد ألمحة آتيا إلى موعدنا الأخير لينفض عني كل تلك الهواجس التي تقاذفت علي منذ الصباح.. أنظر إلى الطاولة التي جلست بمحاذاتها هي الأخرى تنتظر موعداً لعشيقين قد يكون لقاؤهما الأول أو الأخير..

بدأت الدقائق تحاصرني والوقت أصبح في هذه اللحظة نقطة تتفاوت فيها نبضات الأمل متسارعة على حركة يدي عازف البيانو.. وثمة شيء بدأ يجوس في داخلي.. خيبة حتمية ستلي هذا اللقاء..


يضع النادل الكأس أمامي ويسألني مرة أخرى إن كنت أريد شيئاً آخر فهززت رأسي نفياً وشكرته لينصرف من أمامي..

أحرك الكأس ليتحرك محتواه بحركة دائرية حتى تبتلعني فترمي بي داخل دائرة أخرى ومن دائرة إلى دائرة حتى وجدت نفسي على ضفاف مترامية الأمزجة...

- لقد جردتني من خصوصيتي وكشفت عن غموضي كي تحاصرني كمحارب اجتاح مواطن غارقة في ظلمة أعماقي لتكمل فتوحاتك وأنت على حصانك تبلغ المجد .. قلت له ذات لقاء سارح..
يومئ برأسه وهو يبتسم وينظر إلي..
فقلت..
- إنك تخفي خلف نظارتك الشفافة نظرة غائبة على الرغم من حضورك أمامي؟؟ فلا أجدك..
- إنني أحار فيك فلا أعرفك وأحياناً أتوه من أين بدأت معك..
ولأن أغلب حديثه هكذا لا يتعدى النصف جمله يجيب...
- ربما ..
ينكفئ الكأس على الطاولة فيندلق نصف محتواه على ثيابي فرجعت من شرودي.. "ماذا؟؟؟ لقد أدركني الوقت ورحل.. إنه لن يأتي.. ترى هل أخلف ميعادنا الأخير؟؟؟"

ترى أكان هو المألوف؟؟ أم مهاترات دقائق وثرثرة ثواني دون اكتراث.. لقد بدأ الغياب فعلاً يجلس مكانه.. بدأ الزمن يكشف لي شخصيته الظرفية.. لقد سقط تحت سطوة الظرف والزمن.. ورحل ليخلق منها سبباً لغيابه!! بدأ كل شيء يهمس بغيابه.. وفوضى تضج بالمكان والساعة تصرخ وتربك تفكيري.. فبدأت أفقد لذة الأشياء من حولي.. إنه غيابه.. غيابه المباغت دون سبب سوى الظرف والزمن والأصحاب.. كثر غيابه تدريجياً وكثر لقائي به دون حديث أو سلام.. بيننا حاجز من الأصحاب.. وكل يوم ٍيجر يومًا بكسل قاتل يكاد أن يغمرني بأرقام الساعة التي أصبح هو جزءا منها.. فهو منها ويعيش في زمنها الغائب..


ليفرق بيننا الوقت والظرف لكن ربما ستجمعنا بضعة كلمات في واقع محتوم داخل زمن واحد..

يا رجلا تشتهيك الكلمات رغماً عنها.. إنني أجد في هيبتك وقاري وأجد في حضورك انبهاري فثمة لحظات لا تأتي بك تلغيني من الوجود.. إنك رجل الوهم الذي عشته حلماً طوال السنين.. ففي عينيك قمة أنوثتي فلا يستحوذني من الرجال غيرك.. فثمة عيون تلاحقني لتضعني تحت سطوتها ولم تنجح محاولة اعتقالي..

إنه أجمل من أن يكون حلماً ذلك الشعور اللامتناهي أبداً يتعدى كل الحدود بمداه الأطول يغطي مسافات شاسعة في خيالي حتى تتمرد على واقعي لتكون أنت خارج العادة وأنا آخر ما يتوقعه المستحيل..

ألا ترى بأننا خلقنا باختلاف متشابه حد الاختلاف؟؟ نمر بمحاذاة الشوق فلا نرى سوى أنفسنا خلف مرايا أنفسنا تكشف ما بأعماقنا.. أنت وأنا لعبة ظرف وزمن ولقاء مستحيل قد ترتبه الأقدار صدفة. وثمة خوف مشترك بيننا يجمعنا تحت قدر واحد.. واختلاف مشابه لاختلافك حد اللامعقول ببساطة معقدة حد التوتر.. أليس كذلك يا منصور؟ .

ألتفت حولي فلم أجد سواي وكيس الهدايا أمامي وكأنه يراني بأسى...وثمة عشاق بقوا في أماكن متفرقة.. صحوت من سيل الذكريات التي بدورها أصبحت من الوقت.. والتفت باتجاه طاولة لقائنا الأول فقد جمعت عشيقين وفرقت عشيقين آخرين..جلست بمحاذاتها وأطيل النظر فيها علّها تجدي لي نفعاً مما أنا فيه.. فجأةً انزلقت دمعة من عيني أبت السكون.. عبثاً حاولت مداراتها لكنها قررت فراراً من أعماقٍ لم تهدأ منذ الصباح.. لقد لا حظ كل من حولي ارتباكي وانتظاري لشخص لن يأتي.. حاولت أن ألهي نفسي بشيء يبعد عني تلك العيون المتطفلة على جرحي خلسةً..
بدأ كل شيء يتجه نحو الغياب ببطء غروب الشمس وهدوئها حتى بقيت وحدي أنا وذاتي وكيس الهدايا أمامي يشهد بداية سلسلة خيباتي..
أردد في نفسي وأنا أهز رأسي بحسرة ودمعة حمقاء تتراءى أمام تلك العيون المتلصصة..
- يا الله كم هذا فضيع مهين.. لقد أخلف ميعادنا الأخير..

أخرجت محفظة نقودي كي أدفع حسابي حساب دمعاتي وألمي وانتظار شخص أخلف الميعاد.. لقد أصبح المكان شبه خالٍ من حولي تقريباً بينما كانت هناك طاولات ما تزال محتفلة بعشاقها الباقين.. بينما كنت أخرج النقود لدفع الفاتورة للنادل.. انزلقت صورته لتسقط أمامي على الطاولة من بين محتويات المحفظة.. أمسكت بها وأنا أتمعن بملامحها وبتلك البندقية التي كنت ممسكاً بها برشاقة والكنزة الصفراء و"الكاب" والنظارة السوداء وبوضعية الجلسة كي تلتقطك الصورة وتحتفظ بك في ذاكرتها الرقمية.. فابتسمت بألم حين ذكرت..

- هل بإمكاني الاحتفاظ بها..
- ممكن لكن...
قاطعته..
- لكن؟؟ ماذا؟؟ أأنت خائف من أن يكتشفها أحد لدي.. أم إنك خائف علي من أن يكتشفوا أمرها؟؟
بدبلوماسية يجيب..
- خائف من كلا الموقفين.. من أن يكتشفوها لديك، أو يكتشفوا أمرها..
ثم يصمت قليلاً ليكمل..
-قد تسبب لنا الإحراج.. لهذا فلنتجنب ذلك الموقف..

أرى الصورة وحسرة في أعماقي وسؤال يبحث عن إجابة تائهة "ترى لمَ أتاني بعد كل هذا النسيان.. أأتى ليتم آخر جروحي؟؟"

لقد أصبح كل شيء يتعمد الرحيل.. بعد أن هممت بمغادرة المقهى استجمعت ما تبقى من كرامة مكسورة وبقايا مشاعر بللت وجنتي وبعضا من ظنوني وخيباتي.. أطوي الطريق بظلمة أعماقي تحت المطر فلطالما صرخ إحساسي طوال الوقت بأنه "لن يأتي" ولم أصحُ للوقت وهروبه إلا بعد فوات الأوان..
نعم لم يأتِ لقد سبق رحيلي رحيله اللامبرر عن أيامي إنه يسبقني الغيابَ بزمن تخلو أوقاته من لقاء آخر قد يجمعنا.. فوضعنا في كفة المستحيلات..



***********





















ارتميت بكل ما لدي من حزن على سريري..واحتضنت وسادتي بكل ما لدي من ألم لأبكي بحرقة خيبتي.. جرحي..كرامتي .. وعاشق بخس قلبي وتجاهلني. قمة البوح حين أرجع من ذات إلى ذات بفرار وقرار مهزوم ونفسٍ مكسورة.. كم أحتاج لمن أبوح له إني أختنق.. أشعر بقلبي ينقبض أريد أن أحكي لمن ينير لي ظلمتي ويستمع إلي بإنصات.. خطر على بالي صديق هو الوحيد القادر على انتشالي مما أنا فيه.. ليس سوى "سلطان" وحده سلطان من ينير دربي ويخفف عني سوء حالتي.. وحده يقرأ أفكاري ووحده الذي يتفهمني ويشعر بألمي العظيم..

سلطان دائماً هو سلطان اللحظة يأخذني من نفسي ويضعني بمكان آخر على مدى فلسفته الهزلية يدخلني عالما ويخرجني من عالم من دون أبواب هكذا وكأن الأبواب لم تخلق لتوصد بوجهه الضحوك.. إنه الأقرب إلى نفسي وعمري وثمة قدرة إلهيه ولدتنا في الحياة من رحم واحد..

لسلطان حضورٌ مختلف.. إنه يسبقني العمر ببسمة ويسبقني الفرح بدمعة.. له تلك الشخصية الفريدة والحضور العفوي اللذيذ.. تسكنه روح المرح تداعب من حوله.. وله كبرياء العظماء الوقورين.. وكأننا خرجنا إلى الحياة من رحم واحد..

وتعجبني فلسفته المجنونة حين يطلقها وهو يضحك " عالم مجنون" فلطالما عجزت عن مقارنتي بفلسفته فأكف الحديث عنها وأكتفي بالاستماع لها وملأ الوقت بابتسامات هاربة خارج الوقت.. هكذا سلطان دائماً وإلى الأبد حديث الفلسفة والوجه الآخر.

أدرت قرص الهاتف بحثاً عن سلطان كي ألتقي به.. وبينما كنت أستمع إلى رنين الطرف الآخر أتاني صوت سلطان..
- آآلو ...
- صباح الخير سلطان أعتذر لاتصالي في هذا الوقت المبكر
يضحك فيقول..
- أهلاً كيف الحال مر يومان لم أرك أين كنت..
- ظروف فقط.. كانت ظروفا.. أنت تعلم لم يتبق لرحيلي سوى يومان
- إذا يجب أن نلتقي قبل الرحيل يا صديقتي
- طبعاً.. لكنني أريد أن ألتقي بك اليوم إن لم تكن مشغولا..
- نعم فأنا الآن لدي الأعمال.. انتظريني بعد الساعة الثالثة سوف نلتقي..
- حسناً الساعة الرابعة في المقهى المجاور للفندق.. أنا بالإنتظار..
- حسناً أراك عند الساعة الرابعة
- إلى اللقاء..

وعند الساعة الرابعة والنصف.. جلسنا أنا وسلطان في مقهى السيد "فلادمير" العجوز الذي كان يديره مع زوجته السيدة "روزا" وابنته "نتاليا".. المقهى الذي نجتمع فيه أنا والأصدقاء.. ومن بين الحديث الذي شاركنا فيه السيد فلادمير عن أجود أنواع القهوة اللذيذة التي تعدها زوجته السيدة روزا.. تضع نتاليا كوبي القهوة الساخنة أمامنا وتنصرف ونحن نحتسي القهوة..

يتحدث سلطان..
- وكأن الطقس سيكون ممطراً اليوم أليس كذالك..
- ألاحظ ذلك..
ثم وأنا أبتسم..
- لقد عودنا طقس باريس أن لا نثق به أبداً فلابد أن يباغتنا ويمطر
قال.. أرى أنه بعد يومين موعد سفرك ألم تري منصور؟؟

أحتسي القهوة تجنباً للتّسرع في الإجابة..

- منذ أسبوع لم أره ..
- غريب وأنا أيضاً فمنذ أيام لم أره..

يسند ظهره على الكرسي ويكمل..
- عند آخر مكالمة كانت بيني وبينه سمعته يقول إنه يتدرب في إحدى البنوك وإنه أيضاً يلتقي بعضاً من أفراد أسرته لا تنسي إننا الآن في العطلة الصيفية..
- نعم أعلم بذلك لقد قال لي قبل أن يغيب عني أسبوعاً كاملاً..

يمعن النظر بي وأنا أحتسي فنجاني ونظراتي المبعثر في كل الاتجاهات..
- دينا؟ مالي أراك وكأنك لم تذوقي طعم النوم يومين متتالين.. أهناك شيء آخر؟؟
- لا .. لا تقلق يا صديقي فقط ليس هناك شيء سوى إنني أعد أمتعتي للسفر.. لم يتبق لسفري سوى يومان..
- ربما.. لكن وكأن هناك شيء تخبئينه عني.. تحدثي قولي بماذا تشعرين..
- لا شيء يا سلطان ثمة خلاف بيني وبين منصور.. كنت بالأمس أعطيته موعداً كي نلتقي قبل السفر.. لكنه أخلف الموعد ولم يأت.. ثم إنه أصبح شخصاً آخر.. لقد بدأت أنزعج من كثرة اعتذاراته وكأنني أصبحت شيء غير مرغوب به..

يراني والحيرة في نظراته..أكملت
- بصراحة يا سلطان أنا أشعر بالاختناق وأريد الحديث.. فلم أجد غيرك على الرغم من كثرة الأصدقاء إلا إنني أجدك الأقرب..
- أشكرك يا دينا على هذه الثقة تحدثي وتأكدي بأنني خير مستمع لك..
- تغير منصور بالفترة الأخيرة أعلم بأنها انشغالات وأعمال عليه أن يؤديها.. لكن هناك أعذار مقبولة وغير مقبولة.. مثلاً،

آخذ نفساً لأكمل..
- مثلاً عندما أطلبه بالهاتف لا يرد على اتصالاتي ولا حتى على رسائلي.. لو كان يرد ويشرح لي ظروفه لتفهمت.. فقط كنت أريد أن أشعر بأن اهتمامه بي لم يتغير.. لقد تغير علي كلياً وكأنني مرحلة سريعة في حياته وانتهت..

- لا تتسرعي بالحكم قد تكون مسؤولياته هذه الأيام كثيرة.. حتى نحن أصدقائه لا نعرف له موعداً.. أعذريه..
- أعذره نعم لكن لو رأيت منه شيئا ولو بسيط من الاهتمام..

مسحت دمعتي وأنا أصف له شعوري بعد موعد الأمس..
- تصور يا سلطان عندما قلت له إنني أريد أن أراه قبل السفر لم يعطني فرصة أغلق الهاتف قبل أن يؤكد شيئاً توهمت أنه سيأتي رغماً عن كل تلك الظروف سيأتي فقط ولو لدقائق.. لأنني أعلم إنني لن أره قبل السفر لأنني سأكون مع أصدقائي طوال اليوم.. فلن تكون هناك فرصة حتى للحديث.. ثم إنني..

وأنا أمسح دموعي وأحاول تهدئة انفعالي أمام دهشة سلطان..
- ثم إنني كنت أريد أن أراه فقط لهذا..

وضعت أمام سلطان كيس الهدايا .. وأكملت..
- لقد جلبت له أشياء بسيطة للذكرى.. شيء يذكره بأنني كنت معه في يوم من الأيام.. أتمنى أن توصله لمنصور وتشكره نيابةً عني لأنني بعد موعد الأمس لن أقوى على ملاقاته مرة أخرى..

يستمع إلى سلطان حتى أنهيت حديثي ثم يقول..
- ليس عليك يا دينا سوى الانتظار أنا متفهم للموقف والألم الذي سببه لك منصور.. لكن عليك أن تحاولي أن تعذريه فلابد أن يأتيك يوماً ويشرح لك ظروفه فلا تتسرعي بالحكم..

وبعد لحظات بكائي وملاحظة العجوز فلادمير لي ومحاولة سلطان تهدئتي.. قال سلطان مداعباً وهو ممسكاً بالكيس ويستنشق العطر الذي عطرت به الكيس..
- دينا؟؟ ما هو العطر الذي بالكيس أهو باتشولي؟؟

انظر إليه وأبتسم وأنا أمسح دموعي.. ثم يقول
- نعم هكذا أبتسمي.. لا أحد يساوي تلك الدموع..

ويكمل..
- لا تحزني كلنا لدينا ظروف تتحكم بنا.. فليس بيدنا سوى الانتظار انتظري فلا بد أن يأتي ويشرح لك الظروف..

جلسنا نحتسي القهوة ونتبادل حديثا آخر بعيداً عن جو الدموع حتى أتى وقت انصراف كل منا لنتواعد أن نلتقي مرة أخرى بذات المقهى مع الأصدقاء قبل السفر..


************















تتسلل دمعة هاربة من سجن أهدابي.. ترسم خطوطها المتعرجة على وجنتي.. فانتهت على وسادتي بانتحارٍ بطيء..

لهذا المساء حكايةٌ أخرى ووجه شاحب يقف بعينيه على السماء يمعن النظر حتى تمل منه وتقذفه بشهبها المارده.. ولحن هارب من المذياع يجول في أرجاء الغرفة بلهوٍ بريء يداعب النفس المعذبة ويصغي للجروح بدندنة خفيفة على فترات نسيمٍ كسول..

بنهمٍ مفرط تنساب الدموع في أعماقي سيلاً يدوي.. التفت نحوي.. وأشغل تفكيري بأي شيء تقع عليه عينياي حتى غمرتهما الدموع لتتمرد قطرة تتمارى أمام ما تراه عيني من وجوه وأشياء وملامح باردة تراني دون اكتراث..

كاد ليل باريس يصاب بالجنون من برد شمالية جافة.. أسمع هرولة المارة على عجل للإستخباء داخل منازلهم وبالقرب من مدافئهم وأجساد بعضهم البعض حتى يستشعروا بالدفء والأمان.. وترامت كتلٌ ملفوفة بالجرائد والثياب الرثة لتغطي أجسادا عارية تحت هذا الليل الموحش..

دسست جسدي المنهك تحت اللحاف السميك كي أشعر بالدفء والنعاس.. لابد أن أصحو باكراً فغداً سألتقي بالأصدقاء..وتسلل النعاس بأنامله إلى جفوني ليغلقها ويسرقني النوم إلى يومٍ آخر..


***********






13/9

صحوت على صوت المنبه المزعج حتى سقط على الأرض سقطته الأخيرة وتناثرت عقاربه في كل اتجاه.. الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً ويوم صحو بارد.. جهزت نفسي للقاء وخرجت مسرعة كي أمر على بعض من المتاجر كي أتبضع قليلاً حالما يأتي موعد لقائي بالأصدقاء.. وأنا في طريقي مررت على مقهى لقائنا الأول وقفت كي ألقي عليه تحية الوداع.. وأنا أتخيل نفسي كيف كنت في آخر زيارة له وكيف كان موعدي الخالي.. أكملت سيري حتى وصلت للموعد. كانوا مجتمعين ينتظرون قدومي.. جلسنا نتجاذب أطراف الحديث واستعدنا ذكرياتنا وسنين دراستنا.. والحلم الباريسي القديم.. كان العجوز فلادمير يقدم لنا قائمة الغداء" السبيشل" لنا جزءاً من تقديره الخاص لنا كوننا من زبائنه الخاصين.. استأذنت الجميع كي أقوم بنفسي لأختار بن القهوة التي كنت أريد شربها بعد الغداء كي تعدها لي زوجة العجوز فلادمير السيدة روزا.. بينما كنت أقف أمام أصناف بن القهوة المعروضة إذ بسلطان يدخل من باب المقهى ويلقي التحية على الجميع ليقترب مني ويلقي التحية..

- كيف حالك اليوم..؟؟
- الحمد لله..لولا برودة الطقس.
- نعم الطقس بدأ يبرد.. انتهى فصل الصيف.

يكمل..
- غداً السفر إذاً
- نعم .. فاليوم بطوله أمامي كي أبقى مع الأصدقاء.. غداً ستقلع طائرتي الساعة الخامسة فجراً.. ستأتي؟؟
- طبعاً سأكون أول الموجودين.
- لمَ لا تأتي وتجلس معنا..الكل يسأل عنك..

يرد معتذراً….
- نعم مررت وألقيت التحية على الجميع.. فأنا معي منصور وبعض من الأصدقاء..

يمر اسمه علي ليفتح جرح الموعد الخالي.. فأقول لسلطان..
- إذا أراك غداً لا تتأخر الجميع سيكونون بانتظارك.. أستأذن..

انصرفت إلى الطاولة لأفاجأ بمنصور أمامي.. وبحركة لا إرادية أدرت وجهي متجاهلة وجوده.. جلسوا بالطاولة المقابلة لطاولتنا.. أمامي جلس منصور وأمامه اصطنع بسمتي الكاذبة..وأشارك الجميع حديثهم وطرفي الآخر باتجاهه كلياً.. في يومٍ واحد ومكان واحد وبيننا حاجز من الأصحاب.. وهو كما هو لم يتغير به شيء بل ازداد وسامة وأناقة.. هدوءه كما هو.. ونظرة كانت هاربة من خلف نظارته الشفافة لتزيد من شفافيته أمامي فأشعر بها لكنني ورغماً عني أتحاشاها كي لا يجرفني شعوري إليه وأرتمي بين أحضانه لأبكي ما تبقى من الوقت الأخير بيني وبينه.. جمود الأشياء التي أحاطت بنا وثرثرة الأصحاب ورواد المقهى..ونظرة شاردة مختلسه نتبادلها بانصراف..

ثمة أمور لا تزال عالقة في أذهاننا.. تنبض مع هطول أول قطرة ليل (الليل دمعة عين كحيلة بكت حبيبها الغائب.. سالت تلون الأزقة بلونها الشاحب.. فتهدجت الطرقات بهديرها اللامنقطع عبر الغياب..)

تبكينا.. تلك الرغبة الجارفة نحو محالات الظروف.. تاركاً لنا حرية الانتظار..بعيداً.. وفي آخر اللحظات.. يغتال الصمت الأخير كل هاجسٍ مر بمحاذاة الأمل ليتناسانا ويرحل بآخر ومضة عين "منصور" ...

جلست أقرأ كتابا أزيح به رتابة الوقت أهداه لي صديق.. أوراقة الصفراء تحمل تاريخاً لبصمات الذين سبقوني على قراءة تلك الصفحات المتهالكة.. وبينما كنت أتسلى برسوماته الغريبة أتاني صوت الهاتف من الناحية الأخرى لتتحول المكالمة إلى البريد الصوتي على نغمات جارة القمر.. باغتني صوت المتصل يضع لي رسالة في بريدي..

... منصور! ...

- أعتذر لعدم مجيئي لموعدنا الأخير.. شكراً على الهدية.. أعذريني لأنني انشغلت جداً في الأيام الماضية لذا لم أكن معك في آخر موعد.. تصبحين على خير..

ومن دون شعر رفعت سماعة الهاتف لأفاجئه قبل أن يغلق الخط..
- أهلا منصور
- مرحبا دينا.. أعتذر لاتصالي في هذه الوقت..

وبدهشة مستترة..
- ولم الاعتذار.. لطالما كنت تكلمني في هذا الوقت!!

وبعد صمت.. قال..
- لقد رأيتك اليوم ولم أستطع التحدث إليك.. اليوم كنت مع أقارب لي وصلوا فجر الأمس..

أبتسم..
- لا تعتذر لقد اكتفينا بنظرات متبادلة اختلسناها وكأننا خائفان من أن يكتشفنا الآخرون.. اكتفيت بتلك النظرات فأنت تعلم يا منصور بأنني منك أكتفي بالقليل ..
...
....
.....
وعلى دوران الأسطوانة أتت أغنيتي المفضلة مفعمةً بالشوق اللذيذ..
- ياااه أتسمع.. أتسمع يا منصور..
يجيب بصوت هادئ..
- نعم إنها جارة القمر..
قلت له وأنا أتمايل على نغماتها ببطء..
- فقط أريدك أن تبقى معها للحظات.. أريد أن تسرح مع كلماتها.. لربما تصف لك بعضاً من ذكرياتنا.. فقط للحظات..

ودون أن أن أستمع للرد كما يفعل معي دائماً يترك في رأسي أسئلة حائرة تبحث عن إجابة.. أضع السماعة على الطاولة بالقرب من الأسطوانة.. وأخرج إلى الشرفة وأنا أتأمل نغمات الأغنية وهي تملأ جو الغرفة بشحناتها الهادئة بهمس كضوء الشموع الفاتر وعبث نسيم خفيف يداعب الستارة بوهن.. أمعن النظر في السماء وقوافل الغيوم تيسر بكسل على تثاؤب الهواء..أجلس على الكرسي وأفرد أناملي بالهواء لألمس خيال تلك المباني النائمة من بعيد..

ترتسم ملامحه داخلي كالحجر المخربش.. ترى لماذا بقي في قلبي ولم يرحل؟؟ ترى ألهذا القلب خلق هذا الإنسان.. ربما!!!
ألتفت ناحية الهاتف المسجي بالقرب من الأسطوانة التي لا يزال صوت فيروز ينبض في وصلاتها.. بينما كنت أتساءل..
- ترى أما زال على الهاتف ؟؟ أم أغلق الخط؟؟.. وليكن فإنني اخترت من الرحيل عمري.. وسأتركك للغياب.. منصور..

...حبيتك بالصيف..حبيتك بالشتي
نطرتك بالصيف..نطرتك بالشتي
وعيونك الصيف..وعيوني الشتي
غرقانه يا حبيبي..
قبل الصيف وقبل الشتي...


**************
وعلى آخر صفحة أكملت آخر خمس كلمات من آخر قطرة حبر موجودة في أنبوبة التعبئة..
- حين أجد لحزني تفسيراً.. سأجد تفسير وجودي..
- ألا تعتقد بأن التماثيل تتنفس وترى مثلما نرى؟؟ ألا تعتقد بأنها تعشق مثلما نعشق؟؟ ربما...
- من مقهى اللقاء حتى الطريق المؤدي إلى الغياب..ذات ألم كانت أوهامي طيور بجع ترسو في بحيرة الانتظار.
- اتركني كما شئت.. وغادر كل الأماكن ولا تترك لي أثراً أستدل منه إليك.. لأن ما سأصل إليه هو بقايا أثر وبعثرة تركت منذ الأمس البعيد حين كنت في هذا المكان.. فلن أعود قادرة على فك ما تبقى من الرموز...
- وبمناسبة هذا التاريخ العظيم 1/10 أنت أسطورتي الشخصية واحتفالاتي السرية وكنزي العظيم... وحبي الكبير.. لذا وفي هذا التاريخ ختمت الرواية التي حلمت بكتابتها..وقراءتك لها يوما..
- أحبك.. أحبك.. أحب ...
نفذ الحبر من آخر عبوة عند آخر جملة كانت ستختم فيها دينا خواطرها.. وضعت القلم جانباً ونهضت نحو النافذة وهي تعد الشهور التي أمضتها في كتابة خواطرها.. حتى هذا التاريخ الأسطوري بالنسبة لها وهو 1/10 عيد مولد منصورها ختمت فيه آخر جملة لم تُكتب بعد بسبب نفاذ حبر القلم..


*****************





مرت السنون ولا يزال هذا الحب متوقداً في أعماقها الظلماء.. تارةً تعشم نفسها وتارة تستقصي أخباره من بعيد.. حتى اكتشفت ذات يوم بأنها عاشت كذبة ابتكرها شخص كان لها الأخ والرفيق ليدخلها عالم منصور الغامض انتقاماً لمنصور منها.. لعبة دنيئة كشفت نوايا من افترضت فيهما الصدق وصنعت منهما أسطورة (للوفاء)..

ترى أمن الشهامة أن تكسر قلب امرأة صدقت الحب في إنسان لا يعترف بحرمة المشاعر؟؟ نعم فنحن نعيش في زمن كثر فيه الدنيئون وقل فيه الكرام.. ترى هل استلذ سلطان بنكهة الانتصار الزائف على كرامة امرأة ضعيفة وهو الرجل الذي كان يدعي الصدق في صداقة امتدت لسنوات كانت كلها كذبه!!!.. نعم فأمثالهم كثر، ولم يكن هذا الجرح في دينا سوى حياة جديدة تدعوها للاستمرار.. وما هذا الحب إلا تجربه لقلبها الذي كان ينبض منصوراً في جميع أوردته ليستمر نبضاً حتى آخر الحياة.. فقلوب الأوفياء وحدها قادرة على الاستمرار والحياة..

شعرت دينا بخيبة أمل لكنها سرعان ما تناست كل كلمة سمعتها من ذلك المجهول الذي كشف لها اللعبة.. وراحت تطوي كل صفحة دونت فيها أجمل ذكرياتها وهي تستعد للنهوض كي ترمي بجثث الصفحات المطوية في جوف نار مستعرة.. ما إن رمتها حتى بدأت النار تلتهمها جثة بعد جثة حتى تخمت وراح جمرها يبين من تحتها لتنطفئ مع آخر جثة ورقة كانت قد التهمت بعض من أطرافها ...

قالت:...
على الرغم من كل ذلك يا منصور فقلبي لا يعرف الكره أبداً فلست أنت من يشعرني بالكره.. إن قلبي كائن يعشق الحياة والحب.. إنه على قيد الحب لا يزال نابضاً وطفلاً يتعلم من هفواته التافهة وأنت أكبر تفاهة عشتها وأدنى كذبةٍ في حياتي.. اطمئن يا حبيبي لقد كان انتقامك أليفاً ساذجاً.. وما كان سلطان إلا أداة صدئه استعملتها للانتقام..

(وأما أنت يا سلطان فهذا ليس غريبا منك).. إنني لأفتخر بحبي وإخلاصي في هذه الحياة لأشخاص لم يقدروا هذا الحب والإخلاص.. إن الحياة أكثر سخاء من كل شيء وفي كل شيء.. أنا أعلم وأشعر بأنني لا بد وأنني سأصادف من يحترم كل هذا الوفاء.. في يومٍ ما.. في يومٍ ما..

ابتسمت دينا لهذا الخاطر وراحت تراقب سير الشارع شبه المهجور ومن بعيد لاحت القلعة البعيدة النائية كانت آخر ما تبقى من الزمن البعيد.. وهي لا تزال واقفة مابين زمنيين.. وبينما كانت دينا تراقب الطريق المنبعث عبر عتمة منعطف مجهول في هذا الليل. انساب لحن ألفته في ذات يوم بعيد، راق لها الوقوف ومشاركة نسيم كسول الرقص على شرفة مكشوفة.. أغمضت عينيها وراحت تدور كالفراشة حتى أنهكها الدوار وارتمت على سريرها صامته تقاسم اللحن ذكريات كانت منذ سنين... (ذكريات أصبحت في عالم خارج الزمن والظرف والمكان)

"بايام البرد بأيام الشتي
والرصيف بحيرة والشارع غريئ
تجي هاك البنت..من بيتها العتيق
ويألها انطريني وتنطر عالطريئ..
ويروح ووينسها.. وتذبل بالشتي
حبيتك بالصيف..حبيتك بالشتي
نطرتك بالصيف..نطرتك بالشتي
وعيونك الصيف..وعيوني الشتي
غرآنا ياحبيبي..
خلف الصيف..وخلف الشتي"



**************


(1)


وكأن تلك التجربة أعادة تقويمي من جديد وإضافة ميزات جديدة لتقوية أسسي وعنادي أمام عاصفة حب قد تجتاح حياتي من جديد..

الحب ذلك الكائن المظلوم البريء من كل ادعاءات بخسة وكلمات لا تستحق الكتابة.إنه كائن لا يعيش إلا في عالم خارج الأزمنة والأمكنة.

التجربة التي عصفت بحياتي أظهرت لدي طاقة حب كامنة تشمل ما حولي دون استثناء.لقد أعطاني (الحبيب الخدعة) معنى آخر..وافتراضات أخرى غيرت مجرى حياتي من جديد..إنني أكبر..وقلبي يكبر..وعقلي أصبح طليقا من الماضي.

أوضب أمتعتي..كي أستعد للذهاب إلى المعرض والتأكد من عرض لوحاتي واخذ أمكنتها الصحيحة..إنها ثالث مشاركة لي في المعرض السنوي الذي يدخل ريعه لمرضى السرطان. جميل أن أساهم ولو بالقليل لهؤلاء المرضى المجهولين.. أنني اعمل بحب طاهر لا يعرف الزيف.. إنني اعمل بجهد من أجل أشخاص لا أعرفهم حباً لشفائهم.. إنني أشعر بحب يدفعني للأقوى والأبعد.. وأصبح الانتظار لدي قصة قديمة ولدت بي قوة غامضة وأعطتني صفة كنت أتمناها أن تكون بي وهي الصبر.. صفات تتحلانا وتلبسنا.. أهكذا تبادلنا الحياة؟؟

دخلت القاعة..كان لحضور متذوقي الفن فتور لم أره من قبل سنتين منذ أول مشاركة لي في المعرض. وقفت أراقب من بعيد القلة الواقفين أمام عرض لوحاتي الثلاث لقد نقصت واحدة.. نعم ودخل شيء بسيط في حساب هؤلاء الأشخاص المجهولين، شعرت بشيء من الرضا إنني لا أعمل شيئا باضطرار، لقد أتى هذا العطاء من أعماقي من قلبي ..

رحت أجول في المعرض وأقف بالقرب من أصدقاء قدامى كانوا قد عبروا القارات للقائي. أخذنا ندير الذكريات والحكايات في أحاديث وقهقهات من القلب..طاردين ملل هذا الركود الذي أصاب المعرض. رحنا نكمل أحاديثنا في المطعم المجاور. كان عصام الأكثر حضوراً بصمته بيننا لقد غيرت السنين تضاريس شخصيته التي كانت مختلفة مما هو عليه اليوم. أو ربما كان لفعل الظروف؟؟ سمعت من أحاديثهم أنه تزوج عن قصة حب وطلق حديثاً. لقد أصبح اليوم رجلاً مختلفاً رجلا مسكوناً بالأسرار. ضحكته بحساب وصمته بحساب آخر .
قالت سارا...
- ما أجمل التسوق في مدينتكم الصغيرة. لم يخطر ببالي أن هناك تسوق يضاهي أسواق باريس..
قلت لها ...
- البساطة في مدينتي يا سارا تتشكل في كل شيء انظري إلى واجهات المتاجر كم تتسم بالبساطة لكنها لا تقل جوده.
قال خيري...
- في إسطنبول لدينا كل شيء الجديد والقديم.. لكننا ننشغل بالقديم دائماً لأن كل شيء جديد امتداد لقديم ما.
قالت سارا....
- نعم كمنزلك الذي استأجرته حديثاً في قمة التل.. ألا ترى إنه من الجنون السكن وحيداً مع أنك تملك عائلة منتشرة في بقاع قبرص وتركيا..أم أن جنون الفن جعلك تختار الوحدة هكذا.
قال خيري بهدوء..
- إنني في أحيان أعشق الهدوء لكنني في أحيان كثيرة أحن لأقاربي لذلك لا ترينني أبقى في مكان واحد..لكن سكني هو هدوئي فحين أشعر أنني أريد الهدوء أرجع لسابق عهدي وهو منزلي.
نعم كم نحتاج أحياناً لسابق عهدنا. أذكر إنني وفي مثل هذا الوقت كنت لا أفارق ذكريات سنين كنت فيها حبيسة الوحدة والذكريات...والوهم.

**************
تركتني والدتي في رحم الحياة بعد أن خرجت من رحمها تركتني صغيرة لا أقوى على النطق بكلمة إلا بالبكاء.. رحلت أمي لترث جدتي طفلة لا تكف من البكاء والبحث عن ثدي أمها..ووالدي ذلك الرجل المجهول الذي رماني نطفة في رحم أمي ورحل دون أن يعرف إنني كبرت لتحملني في أحشائها كثمرة خطيئة. عرفت الحرمان الذي أصبح رفيقي طوال العمر..ورحت أنسب نفسي للمجهول ذلك الرجل الذي لا أعرف منه سوى اسم ارتبط باسمي على ورقة لا أعرف أين خبأها القدر.
تتحدث بصوت مشروخ بفعل العمر...
- ولدت يا حفيدتي في ظل ظروف حرب أهلية كادت تزق روحك عندما كانت والدتك رحمها الله في فترة نفاس فيك..ولولا ستر الله بنا لكنا أمواتاً جميعاً...هدئت الأوضاع وقررنا الانتقال من قريتنا إلى العاصمة..راحت والدتك تبحث عن عمل كي تعيلنا فوجدت عملا في مشغل خياطة تابع لمتجر كبير في العاصمة.. عشنا حياة لا بأس بها..كبرت وقررت والدتك دخولك الحضانة وزادت المسؤولية عليها..فزادت ساعات عملها وعملت بجهد أفقدها صحتها كان حلمها أن تكملي تعليمك وان لا تحتاجي إلى أحد وتعيشي حياة كريمة دون الحاجة لأحد.
تكمل وهي تشير بيدها الجافة من جرف السنين التي نحتت على يديها بصمة عمر طويل تشير على نفسها..وعيناها كانت تنفرج بفخر وبصوتها الأجش الحميم قالت..
- لقد كنت بصحة جيدة حتى أنني كنت أقوم بأعمال متنوعة أعين والدتك فيها. الحياة في العاصمة يا حفيدتي أصعب بكثير من القرية يجب أن تعملي بجهد كي تؤمني لقمة العيش للغد. وإلا أصبحنا من ساكني الأرصفة والأزقة الكئيبة المظلمة. وبعدها كما تعرفين نزلنا في هذه المدينة الصغيرة كما أردت...
ثم قالت وهي تنظر للبعيد بعينين زاد بريقهما..
- ما إن وصلت لسن الثالثة زاد المرض على والدتك وسلمت روحها لبارئها..وتركت لي طفلة وحياة لا بأس بها وماكينة خياطة تعيننا على استمرار الحياة.
تركتها تكمل حديث لم ينته منذ سنوات بقدر عمري..حديث صامت مع خيوط الصوف وابرة الحياكة لتغزل عمراً يواصل حديث ذكرياتها بخيوط صوف.

نزل أصدقائي بفندق شبه أنيق، أفضل ما قدمته لهم من مدينة بسيطة كمدينتي..لكنها أعطتهم انطباع الحب من سكانها الذين احتفوا بضيوفي العابري كل القارات في ترحال مستمر لا يتوقف...

مدينتي التي لا أحب البوح باسمها ربما لأنها أجمل من أن أخط اسمها بحبر على ورق. إنها جميلة بحد بساطتها.. وعتق مبانيها.. جميلة بكنسائها وعفوية أطفالها.. وعتيقة كعجائزها.. ربما كانت سارا تبالغ حين وصفت متاجرها بأنها تضاهي متاجر باريس..كنت سأصدقها لو أنها كانت تتحدث عن متاجر بيروت..ربما أعجبت ببساطة مدينتي الصغيرة التي تفوق كل جميل في الدنيا بعيني.

غداً سأحدد موعداً جديداً للقاء الأصدقاء وبعده وسأؤكد على حجز التذاكر للرحيل..لا بد أن يعرفو تاريخ مدينتي..ما إن استيقظت حتى ارتديت ثيابي بسرعة ونزلت كالعادة قبلت جدتي وخرجت دون فطور.. وصلت للموعد كان الجميع بانتظاري. في هذا الصباح كان كل شيء مبتسماً كما اعتدت عليه حتى أن الجميع كان منتشياً في هذا الجو الصباحي المثير .

دخلنا التاريخ من بوابة الحارات القديمة والحضارات التي سكنت منذ عقود من الزمن.كل شيء على ما يرام النهار. الناس. الأصدقاء. وأنا التي كنت أسعد معهم في هذه اللحظات العزيزة.. هبط الليل في هدوء على غفلة من المدينة وساكنيها الذين يعيشون في حركة دائمة دون كلل.. نزلنا في مقهى عتيق يرجع لعصر من العصور التي مرت على مدينتي الصغيرة وباقي المدن.

جلسنا ندير أحاديث الماضي وذكريات حميمة قضيناها خلف جدران أعتق جامعات فرنسا.. ومن بين الحديث والحكايات والأخبار.. وبينما لا تزال هناك جروح في الباطن لا تزال بضة. فتل خيوطها الرقيقة حديث عابر كنا نتحدث فيه.. قالت سارا كالعادة من بين ثرثرتها...

- لقد أخذ مركزاً مرموقاً في شركة تابعة لإحدى شركات عائلته..حتى انه تزوج من إحدى قريباته منذ سنوات..

مر هذا الخبر متأخراً بعد سنين.. وأنا احتسي فنجاني توقفت عند هذا الشطر من الخبر.. ترى من تزوج.. متى وكيف؟؟ رحت أسرح بخيالاتي وصوته الدافئ حين كان يحيطني.. اختلطت الأحداث وتاهت التفاصيل.. حتى أنني في هذه اللحظة نسيت ملامحه التي لم تفارقني منذ آخر لقاء.. نسيتها في مدى الصدمة التي لا زلت أسمع دويها في متاهات الفراق.. صدمة أخرى من بعد سنين ..

أكملت
-أخذ إحدى قريباته..كما تجري العادة عند قبائل الجزيرة العربية..حتى إنه بعد كل هذه السنوات لم يرزق بأطفال..ولا يزال يسافر بزوجته بحثاً عن علاج .. سبحان الله يرزق من يشاء ويأخذ ممن ما يشاء..

صمتت سارا وصمت الجميع..ورحت أستعيد ملامحه التي تبعثرت كهشيم الزجاج.. لقد أضاف هذا الخبر لي شيئا من فرحة غامضة..أو شماتة مستترة.. لا تخلو من أنانية..رحت أتخيل نظراته المتشتتة وخيبته.. سرحت بخيباتي وطول انتظاري.... وحرماني.... وأكبر من ذلك (الخديعة).

خديعته التي نصبها لي كي يوقعني في شراكه وأي شراك؟؟ شراك الحب.. (الحب) ذلك الكائن التي دنسته يد بني البشر.. ونبشت كنوز قدسيته.. وجست في نفسي (أذُُقت الحرمان يا منصور؟؟؟).. استغفرت لهذا الخاطر ورحت أشتت هذا التفكير.. لكم عشت حرماناً أكبر منذ خروجي من رحم والدتي إلى رحم الحياة.

غيرت مجرى الحديث وحركت ركودا أصاب الجميع..
- مارأيكم هل كان اليوم ممتعاً.. عدوني أن تعيدوا هذه الزيارة مدة أطول..

قال خيري وهو يستعيد جلسته ويسند ظهره.. وهو يقرب الشيشة من فمه.. ينفخ دخاناً سابحاً في الفضاء.. ويقول..
- لا.. هذه المرة أنا أدعوكم لزيارة اسطنبول..كي تروا كيف للماضي والحاضر أن يجتمعا في زمن واحد..

قالت سارا..
- كفاك فلسفة أنت تعرف إنني منذ زيارتي لتركيا لم أر سوى الفنادق والمنتجعات والبحر.

قال بثقة...
- إذا أنت لا تعرفين ما هي تركيا.. ما من أحد زار تركيا ولم يعد إليها مرة أخرى..

اعتذر عصام وراح خارج المقهى يجري اتصالاً سريعاً وعاد مضطرباً..اعتذر للذهاب إلى الفندق..رحل ورحل معه خاطري لمعرفة ماذا فعلت السنين بعصام.

تعالت أصوات الموسيقى عن لحن تراث قديم ..وراح صوت جبلي عتيق يملأ أجواء المقهى بعبق تراث لم ننسه أبداً...أبداً...


*****************







رجعت إلى المنزل وكأنني في حلم..الساعة تشير إلى الثالثة فجراً .. رحت أطل على جدتي لأجدها هانئة في نوم عميق..اتصلت بالجميع كي أطمئن على وصولهم واستمتاعهم في النزهة كان الجميع قد استمتع إلا عصام الذي رحل باكراً..ربما استعجالاً للرحيل.

يا لها من ظروف قاسيه يواجهها عصام..قرار الانفصال قرار صعب.. قرار لا يؤخذ إلا على تحطيم الخواطر..وتعذيب الأرواح.. (كم هو سهل.. تحطيم القلوب). أتوسد فراشي وهدوء الليل أخذني بهدوء إلى سيناريو ابتكرته لمواجهة منصور.. سأكون جامدة التعابير باردة الكلام!! ترى ماذا دهاني؟؟ لماذا لا أقتنع بأنه أصبح جزءا من حياة الماضي؟؟ إنه الخبر الذي سمعته، زواجه وعدم إنجابه بعد كل هذه السنوات.. ربما أعطاني أملاً ضعيفا.. لكن سرعان ما نفضت هذا الهاجس وبعثرت كلمات السيناريو.. وأطفأت نور أمل خفيف كاد أن يوقد من جديد.



















(2)


الساعة تشير الخامسة فجراً في مدينة الرياض. الطقس جميل صباحاً.. نهض منصور متثاقلاً.. ينظر إلى الساعة.. وينظر إلى زوجته النائمة بقربة.. ويطبع على جبينها قبلة حب رقيقة كي لا يقض نومها.. نهض من السرير.. أخذ حماماً منعشاً.. وارتدى ثيابه على مهل. اليوم حافل بالمواعيد والرسميات المملة. موعد مع مندوب.. مع شركة.. اجتماع.. مشاوير.. جلس خلف مقود سيارته الفارهه يسير بسرعة معتدلة.. الهواء منعش هذا الصباح.. يفتح نافذة السيارة كي يستنشق عليل نسمات صباح مدينة الرياض في يوم أحد جميل.

جلس خلف مكتبه الأنيق.. المصنوع من خشب الصندل المستورد من غابات الهند مباشرةً. كان المكتب يعبق بعطرة الذي يتعطر به كل صباح.. طلب فنجان قهوة وراح يحتسيه بهدوء وهو يستمع باهتمام لسكرتيرة الخاص وهو يملي عليه جدول المواعيد.

يستمع وعلى وجهه الوسيم ابتسامة مريحة.. عيناه السوداوان أجمل ما رأت عينا دينا وحدة تقاسيم وجهه تعطي من يجلس أمامه إحساسا بالهيبة.. له أنف منحوت بدقة كسيف.. وفم يوحي بابتسامة اطمئنان وخُط فوق شفته شارب فاحم السواد رسم بأناقة تتخللها شعيرات بيضاء توحي بدخوله الواحدة والثلاثين من العمر.. وحاجبان كثان حددا جينياً أعطت نظراته حده وجمالاً تستحوذ كل من تنظر إليها تلك العينان. بشرته البيضاء المشربة بلون الرمال توحي بأنه فارس من فرسان الصحراء تسرق لب فتاة لم تنسها نزوات السنين حبه البعيد.

استلم التقارير المرسلة إلى مكتبة.. وهم بقراءتها.. يرن هاتفة الجوال.. فإذا زوجته تطلبه..
- هلا حبيبتي.. صباح النور
ترد شيخة على الطرف الآخر من الجوال..
- حبيبي لا تنسى اليوم عيد زواجنا.. لا تنسى تذاكر لندن.. و الا نسيت؟؟؟
يبتسم وجهه الجميل..
- أبد يا عمري ما نسيت..وإذا تبينا نسافر اليوم..ما تأخر عن طلبك لحظة..

تبتسم شيخه بخجل...
- أخليك حبيبي تكمل شغلك..ما راح أعطلك.. حبيت أسمع صوتك.

طمئنها...
- الخميس طيارتنا..

زاد حماسها..
- تم يا بعدي..

أغلق منصور الخط.. وراح يسرح بأول يوم زواجه من شيخة .. عندما أفتتن بعينيها وطي أهدابها الكثيفة..وشعرها الأسود المموج وهو ينسدل بارتخاء على ارتواءة متنيها..كم كانت فرحته لا توصف حين خطبتها له والدته كونه البكر وأول فرحة لوالديه وإخوته..كان يرى شيخه من بعيد بعد بلوغهما وبحكم اختفائها عنه بعد طفولة لا ينساها في باحة منزل العائلة الكبير .. حين كان يفضلها عن بقية صغيرات العائلة.. كانا يلعبان دائماً منفردين عن بقية الأطفال بحيث أن لهما ميولهما الخاصة وجوهما الخاص. بعد أن بلغا سنا يمنع اختلاطهما مع بعض حكم عليه أن يكتفي برؤيتها من بعيد عندما تحين زيارة بيت العائلة التي لم تنقطع في لم شمل أفرادها في يوم واحد من الأسبوع.

اتصل على مكتب السفريات وأكد على حجز يوم الخميس إلى مدينة الضباب مدينة العشق والحب والجمال..تتمتع لندن في هذا الفصل من السنة باعتدال طقسها وقلة السياح العرب الذين يكتظون كل ضيف في كل أرجاء لندن وأسواقها التي لا تتوقف من زحف المتسوقين من كل أقطاب القارات القريبة والبعيدة..نهض ليبدأ أول مشاويره في يوم حافل بالمواعيد والرسميات المملة.

(3)


اليوم عيد الزواج السعيد لشيخه ومنصور.. إن هذا العيد بالنسبة لشيخه عيد مميز لا يضاهيه عيد آخر.. تستعد للاحتفال هذه الليلة الخاصة بينها وبين منصور حلمها الجميل التي كانت تنتظره طوال سنوات الاغتراب ليحضر إليها فارساً حاملاً بيده وسام الحلم وخاتم الزواج..كان يوم زفافهما حلماً لكل فتاة كانت تنظر لمنصور زوجاً لا يعوضه رجل آخر، فكان ذلك اليوم حديث كل فتيات الأهل والأقارب.. حتى إنه أصيح حديث الموسم في بيوت الرياض.

قررت شيخه ارتداء ثوب أحمر عاري الصدر والأكمام.. ثوب كان قد أحضره منصور من إحدى سفراته إلى روما.. سرحت شعرها المموج وأهملته ليتهدل على صدر ناصع البياض.. فتحت الدرج لتخرج صندوقا صغيرا وضعت فيه قرطين من الألماس هدية منه أيضاً في عيد زواجهما الثالث.. فاليوم بلغ تاريخ زواجهما الخامس ولا بد من ابتكار طريقة جديدة للاحتفال بهذا اليوم الحلم..

أمام المرآة ظلت تتمعن ملامح العمر على وجهها البريء سنون مرت وكأنها حلم لا واقع له سوى عيني زوجها الحبيب.. سنون مرت ولم تثمر بعد شجرتهما. أصبح الهمز واللمز حولها كلما راحت تزور أو صادفت إحدى صديقاتها.. سؤال واحد يكرر نفسه على وجه الكل..(ألم تحملي بعد؟؟).. سؤال لم تجد له جوابا سوى الصمت والدعاء كل فترة ليل يهبط على عينيها الحائرتين..

حلمها بالطفل أنساها فرحت العيد..عيد زواجهما الخامس.. الخامس.. مرت خمس سنوات ولا تزال تنتظر هذه النطفة التي لم تأت بعد..إنها تعلم بأن العيب يكمن فيه لكنها صابرة لأنها تحبه لطالما كانت تتمنى هذه اللحظة التي تجمعها معه في غرفة واحدة وبيت واحد.. لكن إلحاح والدتها وشقيقتها على مواجهته كي يستمر بالعلاج أقوى أمام رغبتها لطفل منه.. لكنها كانت تتراجع في آخر لحظه لأنها متأكدة من كل قلبها إنه أكثر رغبة وأكبر شوقاً منها إلى طفل يحمل اسمه ويعينه على أعباء الحياة وتعبها.. تدور حول الغرفة ساعة رجوعه أزفت.. تأخر عن موعد الرجوع قليلا.. لكنها وفي هذه اللحظة امتلأ رأسها بالأفكار..وقفت على الشرفة المطلة على مسبح كبير.. وحديقة تشبه حدائق الخيال بتصميمها الفريد.. راح قرص الذاكرة في رأسها يدور.. تذكرت أول نظرة حين وقعت عينها بعينيه بعد وصوله من فرنسا استقبلته ببسمة دافئة خجلة.. لولا كل الأهل الذين كانوا حوله لارتمت في أحضانه وبكت فرحاً رجوعه سالماً بعد كل تلك السنين.. التي قضتها خلف جدران غرفتها الوردية تبكي غيابه وتشتاق له بصمت خوفاً من أن تسرق العذارى صورة حبيبها المنتظر.

خطبت شيخه لمنصور بعد إلحاح منه . وحباً من والدته التي كانت تتمناها عن باقي فتيات العائلة لجمالها وثقافتها.. وكونها أيضاً (ست بيت) ممتازة. تمت خطبتها قبل نهاية سنة منصور الدراسية وتم الحفل في منزل العائلة الكبير بعد رجوع منصور وتخرجه ونيله للشهادة.. وبعدها سافرت معه ليؤدي رسالة الماجستير كانت أياما لا تنسى أبداً طاف معها كل الدول والمدن.. وعاشت معه خطوة بخطوة كي ينال شهادة الماجستير.. ولا تزال تلح عليه ليأخذ الدكتوراه لكن مسألة عدم الإنجاب أرقتهما واحتلت معظم حياتهما الزوجية.. هو ينتظرها متى تحمل.. وهي تنتظر متى ينقطع الطمث.. سنوات من المرارة لم يهنئا فيها.. وحلم الأبوة والأمومة أصبح حلم كل ليلة.. وواقع مرير ..

جلست على الطاولة ترتب الشموع وتجهز الطعام الذي أعدته لهذه الليلة.. وراحت تعطر المكان ببخور ثمين يضفى على الغرفة رائحة عطرة.. وقفت أمام المرآة وأخذت قلم روج أحمر لتطلي شفتيها المكتنزتين.. ورشت عطرا فرنسيا أيضاً كان هدية من منصورها.

دخل عريسها.. عريس كل لياليها .. قامت لتستقبله بقبلة.. وضعت رأسها المتعب على صدره.. هذه الليلة شيخه تخفي تعبا لم يلحظه منصور من قبل.. ضمها على صدره وراح يقول..
- وحشتيني يا قمر..

لم ترد.. قال..
- ليه القمر زعلان.. سامحيني موقصدي أتأخر..

وراح يعتذر متناسيا السبب الحقيقي لضيق صدرها كان يجب أن تستقبله بحلة أزهى وأجمل.. لكنها اكتفت هذه المرة بإشعال جمرة الحب في قلب فارس كل الصبايا..
- "ها يا شيخه كني أشوفك ليلحينك زعلانه.. غمضي عينك".

أغمضت عينيها بفتور مرتعش... وفتحتها مبتسمة باندهاش أفرح قلبها الحيران.
- يا بعد عمري!!!!!!!!


















(4)


في التاريخ المحدد وصلت إيطاليا ثم إلى صقلية استجابة لدعوة صديقتي هيلينا.. التي لم أرها منذ سبع سنين لانشغال كل واحدة بحياتها.. تقول إنني تغيرت كثيراً.. أجيبها بأنها تبالغ.. رتبت غرفتي ونزلنا كي تعرفني على عائلتها الكبيرة التي تواجدت كلها إحتفاءً بي.. كانت مائدة الغداء كبيرة وبها كل الأصناف.. تحرجت من أن أجلس على الطاولة لكن من العيب أن لا أشاركهم مائدة الغداء كوني المحتفى بقدومها..

أغمس قطعة من رغيف الخبز في طبق صغير مليء بزيت الزيتون الساخن وأتلذذ بمذاقه الفريد. كنت على مائدة غداء صقلية في منزل والدا هيلينا في العاصمة باليرمو كان غداء عائليا كما تسميه هيلينا حيث تجتمع العائلة كلها على مائدة الغداء يتحدثون أحاديثهم الشيقة دون توقف أو ملل.. أناس محبون للحياة ومقبلون عليها بقلب ينبض بالتفاؤل. لا يعرفون الصمت أبداً (mai) ولا السكون "يحبونك لأنك ضيفهم المُنتَظَر.. الضيف الذي سيضيف عليهم يوماً جديداً من المعرفة والحياة". تمد لي والدة هيلينا طبقا آخر صغير فيه مكعبات صغيرة قُصصت بعناية على هيئة أجزاء صغيرة ذهبية اللون وزكية الرائحة. خجلت من أن أسألها إن كانت تلك القطع الصغيرة لا يجوز لي تناولها "قد تكون من الأطعمة التي تحرم علي أكلها". تناولت منها الطبق فالتفت ناحية هيلينا الجالسة بجانبي كي أسألها إلا إنها قالت: لا يوجد على مائدة الغداء لحوم أو زيوت غير نباتية كل شيء هنا نباتي ثم أخذَت قطعة الخبز من أمامي وغمستها بالزيت الذي أصبح دافئاً لتعرضه للهواء فترة من الوقت ثم غمست قطعة الرغيف بالطبق الذي فيه المكعبات الصغيرة وأعطته لي كي أتذوقه كان لذيذاً للغاية وتلك المكعبات الصغيرة ليست سوى قطع بصل مقلية بالزيت حتى تحول لونها للون الذهبي.

كان الجميع يضحكون ويتحدثون دون توقف كانت العائلة كلها حاضرة على مائدة الغداء إلا (رفاييلو) شقيق هيلينا. رافاييلو الذي كان غائباً لظروف تنقله بين إيطاليا و أمريكا لمشاريعه وأعماله التي لا تنتهي أبداً كما كان يقول والد هيلينا عنه بتذمر واضح لسبب غيابه المستمر عن العائلة. "رفاييلو مثال الشاب الصقلي العريق" كما يقول عنه الجد فرانكو "نبتة صقلية عريقة" وهو يضحك فتهتز كرشه الكبيرة بعض الشيء. كان رفاييلو شاباً وسيماً لأبعد الحدود له شارب خفيف على شفتين تختصران رجولة لا متناهية وفك عريض تستقر عليه لحية خفيفة حددت على ذقنه لتكمل من جمال ملامح وجهه الحادة.. وشعر أسود ناعم وبشرة بيضاء مشربة بالحمرة وعينان بينيتان حين تسطع عليهما أشعة شمس البحر المتوسط. التقيت به أول مرة عندما قمت بزيارة صقليه لأول مرة عندما كنت في زيارة لمنزل هيلينا في باليرمو العاصمة كانت المرة الأولى التي رأيته فيها منذ سبعة أعوام.


*************

















يسير بعرج واضح من جرحٍ قديم ويتكئ على عصا نحتت عليها زخارف صغيرة تظهر من على جوانبها لتظهر نتوءات تبرزها بأناقة ودقة. الجد "فرانكو" يطلعني على مزرعته الواسعة حيث يزرع فيها أشجار الزيتون. يقف بجانب شجرة زيتون ويمسك بطرف غصن ليقطع منه ورقة بان عليها الاصفرار ويقول: "ورقة صفراء واحدة كافية بأن تُمرض شجرة كاملة" لما له من خبرة كبيرة في أشجار الزيتون كان يعرف الشجرة المريضة من الشجرة الصحيحة من حيث بروز أغصانها المتشعبة كما أراها أنا. أقف بجانبه ليضع بيدي الورقة الصفراء ويقول وهو يشير تحت أقدامنا..

- Da qui è iniziato nel primo coltivazione di alberi di olivo, ha iniziato a piantare ulivi da quando avevo diciotto anni ero un giovane che era agli altri

- (من هنا ابتدأت في زراعة أول شجرة زيتون، لقد بدأت بزراعة أشجار الزيتون منذ أن كان عمري ثمانية عشر عاماً كنت شاباً يافعاً آن ذاك).

يقول وهو يرى الشجرة التي قطع منها الورقة الصفراء ويتفحص باقي أوراقها. وفي عينيه نظرة حنين لأيام الشباب والعنفوان ثم يكمل.

- Ho imparato la coltivazione di alberi di olivo gravi come sono cresciuto e potente e intrisa di lui stampante antico siciliano.

- (تعلمت زراعة أشجار الزيتون من جدي حيث إني ترعرعت في كنفه وتشربت منه طباعه الصقلية العريقة).

ثم وهو ينظر نحوي وهو يقول باعتزازٍ ظاهر.

- È stato un serio professionista lui vasta fama e commercio siciliano olive. Olio è stato estratto dalle olive e la sua rete di più di questo tempo con l'odore e il gusto del quale mi congratulo.

- (كان جدي تاجراً له شهرة واسعة في تجارة الزيتون الصقلي. فكان الزيت الذي يستخرجه من الزيتون بيده صافياً أكثر من هذا الوقت وله رائحة أزكى وطعم ألذ).

فيردف بعد نفس عميق ونشوة كلام لا يريده أن يتوقف.

- Ereditati dal commercio, in quanto questa azienda sta crescendo a generale della terra di pura benedizione.

- (فورثت منه تلك التجارة وهذه المزرعة فازدادت بركتها كونها من أرض نقية مباركة).

أراه وهو يتحدث. كم أحسد بساطته وعشقه للحياة رغم عمرة الذي تجاوز الثمانين. كان واضح الوسامة عندما كان شاباً له شعر كثيف ناعم كلون الفضة وهي تبرق تحت أشعة الشمس وبشرة مشربة بالاحمرار. له شارب هُذب بدقة لفت جوانبه بعناية.. وله أنف مستقيم يذكرني "بأنتوني كوين" لا بل كان بينهما شبه متقارب. فارع الطول،قوي البنية.

يسألني..
- تقول حفيدتي هيلينا إنك تحبين صقليه.. حتى إنك أسميتها يوماً "بعروس البحر المتوسط"

يبتسم بحبور وثقة ثم يردف..
- من يعرف صقليه جيداً لا يفارقها أبداً
- نعم يا جدي على الرغم من بعدي عن صقلية إلا إنني مازلت أستنشق رائحة تربة شواطئها.
- كيف وجدت صقليه عندما زرتها أول مرة؟
أحسست من سؤاله البسيط أن هناك مغزى مبطنا من خبير بالحياة يوجهه لفقير بمعرفتها جيداً. ابتسمت وأنا ارفع حاجبي الأيمن دلالة على فهمي للمغزى.
- في صقلية وجدت روحا تسكن على هذه الأرض ..كل مكان فيها ينبض بالحياة فأحسستها بشراً.. تحاكينا وتفهمنا أحسست أن هناك رابطا قديم يربطني بها منذ الأزل. فمن يسير على شواطئها يعرف ذلك المعنى جيداً.

يهز رأسه وهو يرفع حاجبيه للأعلى علامة الإعجاب.. ثم نسير باتجاه مرتفع صخري يودي إلى طريق حفت جوانبه بالصخور كانت أجراس الكنائس تدق بابتهاج في أنحاء الجزيرة.. وبينما نحن نسير خارجين عن الحقل متجهين إلى قمة مرتفع ما مررنا بجانب كنيسة قديمة أقيم بها عرس صقلي مر بجانبنا بأهازيجه وعروسيه والمدعوين وهم يسيرون خلفهم.. وقفت أرى تلك البهجة البسيطة رغم بهرجتها وألحانها وأصواتهم المتداخلة بفرح. أكملنا السير حتى وصلنا إلى المنزل المطل على بحر بعيد وطرق متفرعة باتجاهات متعددة.. وسهل كاتانيا المنخفض.



*************












في صباح اليوم الرابع كانت هيلينا تعد الشوكولاته الساخنة لي ولها.. وبالناحية الأخرى كانت الجدة "ماريان" تحيك كرات الصوف المبعثرة من السلة وكانت تجلس بالقرب من سلة الصوف قطتهم المملة السمينة نتاشا تلهو مبعثرة كرات الصوف الملونة حول الكرسي الهزاز التي تجلس عليه الجدة ماريان. منذ وصولي إلى تراباني غرب صقلية حيث يقيم جداها وعمتها "كرستينا" التي تسكن معهما بعد وفاة زوجها في حادث لتقضي حياتها في تربية أبنيها "المانزو" "ورفاييلو" ليتركهما لها ويرحل.. ليتكفل بهما جدهما فرانكو حتى يكبرا في كنفه وأمام عينيه. أحسست أن هناك تشابها قريبا بين عاداتنا وعادات أهل صقليه القرويين. بهم طباع عربية عريقة وعادات شرقية عتيقة.

أصحح من جلستي على الكرسي محاولة أخذ نفس بسبب الثوب الذي ابتاعته لي هيلينا.. كان ثوباً بسيطاً ورقيقاً ذا لون أزرق سماوي نقشت على الفستان زهور صغيرة باللون الزهري وحزام رفيع من الجلد لف حول خصري وبسبب ذلك أحاول التنفس بصعوبة بسبب شد الحزام على خصري فأكاد أنقسم لنصفين.. تقول هيلينا إنه صنع يدوياً وإن أغلب فتيات صقليه منذ القدم يرتدون هذا الزيّ البسيط والكلاسيكي وما أجمل كلاسيكية صقلية. كان الثوب ذا أزار من الياقة حتى نهاية الفستان يغطي الساق إلى تحت الركبة قليلاً. كان القماش خفيفاً تكاد نسمة خفيفة من نسمات البحر المتوسط ترفعه إلى الأعلى.. ولبست حذاء أسود ذا كعب رفيع قليلاً ووضعت على كتفي شالا أسود حاكته لي الجدة ماريان قبل وصولي إلى صقليه بأسبوع هدية متواضعة أحتفظ بها طيلة حياتي.. وجدلَت شعري لتضع على طرف الجديلة شريطة رقيقة باللون الزهري." وهكذا أصبحت فتاة صقلية" كما تممت الجدة ماريان وهي تعطيني المرآة كي أرى وجهي الصقلي الجديد.

- إن الفستان يظهرك أكثر إثارة يا شقية.
تضحك هيلينا باقتضاب فتكمل وهي تمعن النظر إلي.
- لم أتوقع إن هناك شبها بينك وبين والدة جدتي لقد كان الكل يتحدث بذلك على مائدة الغداء ذلك اليوم.

ثم لم تعطني فرصة لأرد على كلامها الذي زادني نشوة وفخرا وأنا أرى نفسي في المرآة المعلقة على الحائط فالملامح اللاتينية لها ملاحة خاصة جداً.
- كانت هكذا تشبهك من حيث الحاجبين والأنف والشعر. الشعر هو أكثر شيء يجمع بينكما. أسود ناعم طويل حتى منتصف الظهر منسدل دون تموج. إلا إن هناك شيء واحد يختلف قليلاً بينكما.
أقول" ما هو؟؟" و أنا أطير نشوة.
- عيناها زرقاوان كلون البحر...
ثم قالت وهي ترى ناحية الغروب..
- أتعلمين كان اسمها "إزابيلا" إسبانية الأصل.

ألتفت ناحية الجدة ماريان المستغرقة في حياكة الصوف وبقربها القطة البغيضة نتاشا منشغلة باللهو في إحدى الكرات المتناثرة من سلة الصوف...وذكرى والدتي التي لم أطل النظر في ملامحها وأغفُ على صدرها مرت علي كلها في هذه اللحظة..وتذكرت الحرمان رفيق دربي الوفي.
تكمل.. وكانت راقصة إسبانية شهيرة عشقها والد جدتي من أول ما وقعت عيناه عليها فتزوجها بصعوبة كون والد جدتي من أسرة إيطالية عريقة إلا إنه بالنهاية تزوجها رغما عنهم حتى أنهم قاطعوه في البداية لكنهم اجتمعوا وتصالحوا بالنهاية.

ثم وهي تنظر إلي وتقول..
- حتى أنها كادت تباع لأحد ملوك الشرق إلا إنهم لم يفلحوا في ذلك.
-أبتسم وأنا أنظر إلي هيلينا بعد انتهاء القصة..
- قصة جميلة.. ومشوقة أيضاً..
قلت..
- نحن دائماً نقع ضحايا آباء لا يعترفون بأخطائهم..القصة نهايتها سعيدة كون العائلة بالنهاية اجتمعت لكنها بالنهاية تقر بينها وبين نفسها أنها على صواب حين قررت المقاطعة.. لكن وعلى الرغم منها لمت الشمل كي لا يشعر أحفادها بالحرمان والضياع..
صمت قليلاً لأترك لها مجالاً للرد.. فأكملت..
- حين قرر والدي الارتباط بوالدتي.. كانت النية أنها فترة قصيرة وكل شيء ينتهي.. لكنه نسي شيئا أهم: أنني قد أكون نطفة سينساها في رحم والدتي!!

تقول مستنكرة "ma come !!" كيف هذا؟؟
- إن أبي رجل من عائلة عريقة ذات نفوذ ومال..أما والدتي فتاة قروية جميلة وصغيرة أغرم والدي بها حتى تزوجها فترة ثم كل رحل في حال سبيله.. وتفاجأت والدتي بأنها سترزق بطفل يعرقل حياتها..

أنظر إليها..وظل ابتسامة على شفتي.
- تركتني ورحلت عن الدنيا إرثا ثقيلا على امرأة عجوز كابدت كي توفر لي حياة شبه هانئة.. إن جدتي تحملت المرارة في حياة ابنتها وعانت أكثر حين تركتني أمي في سن الثالثة..

وأنا أرى للبعيد..
- كم عانت تلك العجوز من أجلي..

أقول لها ختاماً لحديث وجدتني أتحدث فيه بلا شعور..
- ياااه اشتقت لها.. سأتصل بها كي اطمئن عليها..

أجريت اتصالا سريعاً وتحدثت لجدتي كي أطمئن إن الخالة عائشة قد نزلت من العاصمة لتبقى معها طيلة فترة سفري..



***************


أنا سعيدة لأن هناك ما أحبه.. فبمجرد التفكير بما أحب يغمرني الشعور بقوة الحب الكامن في أعماقي.. وفي صميم ذلك الإحساس أشعر بالحياة جيداً.. أنا سعيدة لوجود الذي أحبه وما أحبه هو حقيقة وليس خيالا.. أنا سعيدة أنني أعبر طرق المدن التي تسكنني وأحلم لمجرد الحلم وحده، فالحلم قادر على تحقيق رغباتي.. وعبور طرق الأماكن التي أحب.

هناك أشخاص تحلم بوجودهم وأشخاص لا تحب وجودهم أصلاً فوجودهم يعني إلغاءك تماماً من صورة الوجود.. فوجودهم يعني اقتحام مواطن تفكيرك العميق بما تحب وماذا تحب.. يقتحمونك بمجرد أنهم يفكرون بما يريدون هم فقط ويجبرونك على كيفية عيشهم.. أشخاص يجعلون مكانك الحلم كابوسا تتمنى زواله وانتهاءه.. ففي أماكننا الحلم نسعى إلى تحقيقها بعيداً عن هؤلاء "أشباح الأحلام الجميلة". أماكن تسكننا أشياؤها الكثيرة وحدها الأشياء جديرة أن تسكننا ووحدنا جديرون باختيار الأرض،الزمن،والأشخاص..

والعشق؟؟
وحده العشق ليس بأيدينا اختياره..لكنه أجمل مباغتة بالحياة.. إننا نقع في دائرة اختياره فقط لنا أن نختار ذواتنا فيه. الذات هو الاختيار الوحيد في حال عشقنا.. فصقلية أرض الحلم التي شعرت بذاتي فيها حين أسير في طرقاتها.. وثمة حياة تتسلل عبر أقدامي العاريتين وأنا أطبع خطواتي المرتعشة على رمال شواطئ بحرها التراني.. وحلم مدينة الضباب الأثير مازال يراودني وأنا أسير على أرصفتها المبللة بقبل قطرات المطر. أماكن عشقتني وتركت لي المجال كي أعشقها.. وحدة المجال هو من يفرض فرصة الاختيار.." فتباً لتلك الأشباح البغيضة وتباً للحظات وجودها.. فارحلي يا أيتها الأشباح بعيداً واتركيني بسلام".

تقول الجدة ماريان:

-( Mentre noi vogliamo trovare ciò che l'amore non è l'odio, ma sta succedendo a noi ci mettono sotto la mano di coincidenza di primo grado .. Solo una coincidenza che può creare ).

( حين نريد أن نعشق لا نجد ما نعشق بل هو من يجدنا ليضعنا تحت كفة الصدفة الأولى من القدر.. وحدها الصدفة قادرة على خلق ذلك.)

ثم بعد رشفة شايٍ ساخن من فنجانها الصيني الفاخر ذو النقوش الأنيقة على جوانبه الملساء..

- Coincidenza desideri nascosti verranno da qui

(فالصدفة تأتي بمحض رغبات خفية تكمن هنا)

وتشير إلى قلبها..

- Vuole sepolto in Acaour dopo un lungo periodo di attesa fino quasi dimenticata .. Cosa sta diventando così maturata senza di noi sono.

- (رغبات دفنت في اللاشعور بعد فترة طويلة من الانتظار حتى نكاد ننساها.. فما لبثنا حتى نضجت دون أن نشعر بذلك.)

ثم وهي تنظر ناحية سهل كاتانيا بعمق نظرة شعرت بحنينها لصدفة حبٍ ما ابتدأ من هناك..

- Unità di insistere in grado di fare miracoli coincidenza.

- وحده الإصرار قادر على الإتيان بمعجزات الصدف..

أراها وأنا أرتشف فنجاني بهدوء وأنا أستمع لها باهتمام وثمة سؤال كدت أن اطرحه عليها لكن ما إن فكرت فيه تراجعت عنه في اللحظة الأخيرة خيفة من أن أُسفه أمرا جليّا كان قد ابتدأ من هناك " صدفة من أيام ماضٍ جميل على ضفاف سهل كاتانيا ". ثم نظرت ناحية هيلينا الجالسة بقرب جدتها وهي سارحة إلى اللاشيء أيضاً. فرحت أفكر بشيء أحاول به أن أغير مجرى تلك النظرات السارحة للبعيد نحو ذكرى تسكن في ذات كلٍ منهما فأقول..
- جميلة هي تلك الأيام التي تحضّرها لنا الصدفة.. فالصدفة معجزة لمن يشعر ببركتها..

فقالت هيلينا مستكملة جملتي تلك وبنظرة شقية تنوي شيئا ما وهي ترفع حاجبها الأيمن وفنجان الشاي كان بيدها اليمنى تريد أن ترتشف منه.. لتباغتني قائلة..
- كاللقاء الذي تم صدفة عند بوابة الخروج في السيلفرج..
- !!!

بإحراج لكزت هيلينا على قدمها لينسكب الشاي الساخن عليها..فكتمت صرخة كادت تطيش منها أمام الجدة ماريان التي كانت ترانا دون اكتراث ثم اتجهت بنظراتها الهادئة إلى جنبات سهل كاتانيا مرة أخرى.. بينما أخذنا نرتشف الشاي الساخن بلذة وكانت كلٌ منا تسبح في فلكه البعيد نحو اللاحدود.

كل شيء هنا ألفني وألفته وأحببته.. الشجر.. الزرع.. الدروب.. الصخور المترامية على جنبات الطرق.. وزهور متحدية جفاء الحجر وبحب تنبت كل يوم حياة جديدة تنبض في أركان جرداء من كل شيء.. وكل حبة رمل هنا علقت سهواً على قدميّ العاريتين لحظة عبوري على شاطئ المتوسط هنا حيث وجودي.. ذات يوم انبثاق ضوء روحي في كل مكان هنا حيث كل شيء جديد ينبض بالحب والألفة وتكافؤ الأشياء رغم تناقضاتها إلا إن كل شيء هنا أصبح يتغنى بأيقونة الملائكة والحب والوفاء.. في كل منزل وطريق وصرح تاريخي قديم.

أجلس على صخرة كبيرة كانت على وسط الطريق وإستراتيجية وضعيتها
تطل على سهل بديع خلته دائماً "مدينة الأحلام". جلست بقربي هيلينا وهي تنظر ناحية السهل فسألتني..

- حقاً يا صديقتي.. لمَ لم تخبريني يوماً عن قلبك.. أستغرب لقد تحدثنا عن كل شي إلا القلب لم تفتحي له يوماً مجالاً للكلام؟؟

أراها وأنا أتحفز للإجابة التي طالما تمنيت أن أجد لها جواباً آخر في أكثر من مناسبة..
- لطالما تمنيت ذلك يا صديقتي.. لكنني لم أفتأ أن أتحفز للإجابة حتى يتبخر الكلام تماماً من الذاكرة..

تقاطعني..
- وماذا عن اللقاء الذي تم صدفة عند بوابة السيلفرج..

ثم وهي تشخص عينيها..
- بت أتخيل هذا اللقاء بل حديثك برمته ضربا من الخيال لا يعرف للواقع حديثا..

استطرد صمتي فلبثت للحظات وأنا أتأمل حركة يديها المحتجة بالفراغ وشحيح فترات النسيم يتخلل حديثها بينما بالناحية الأخرى كانت أجراس الكنائس تدق من جنبات الجزيرة.. فأقول..
- كل حكاية عن صدفة غريبة يخال المستمع إنها من نسج خيال المتحدث..

ثم وأنا أنهض وأنفض ما علق على الفستان بينما لا شيء كان عالقا عليه..
- ثم إنك تلمحين كثيراً وبطرق مختلفة كي تعرفي واقع هذه الرواية من خيالها عن هذه الصدفة..
- أريد أن أفتح مجالاً أكبر للحديث..هناك هوة تجتاح جسور التواصل بيننا.. يا صديقتي..

تكمل..
- أحياناً أشعر أنك تخبئين عالما أكبر في أعماقك المجهولة بينما تعيشين عالماً لا يختلف عنك بل إنك وُجدت فيه بمحض الغربة..
- لم أشعر بهذا القلب أكثر إلا بعد ما أفجعتني حادثة رقود جدتي في المستشفى.. تلك الحادثة كادت تودي بحياتها لتتركني وحيده في رحم هذه الحياة.. لقد أصبحت أكثر وجوداً من ذي قبل وأصبحت أكثر شعوراً وقوة لا بل أصبحت أكثر جفوة ووحشة. وحباً لكل شيء!!
تقول..
- الوحشة تحتاج إلى عاطفة كاملة كي تروضها.. أنت تحتاجين إلى الأمان كي يهدأ هذا القلب المتوحش يا صديقتي..
أبتسم استخفافاً بينما فكرتها راقت لي بعض الشيء منذ زمن بعيد.
- الحب؟ أتقصدين العاطفة هو الحب؟؟
- يا صديقتي.. الحب هو الذي يمجد ذات الإنسان.. هو الغريزة الأخيرة التي تدفعنا إلى البقاء والأمان..
ثم وهي تعيد سؤالها مرة أخرى...
- أريد معرفة تلك الصدفة التي أكثرت من كتابتها في الرسائل بالفترة الأخيرة.. أتحسبين إني غافلةً عن الأمر؟؟؟
- ماذا تريدين أن أقول؟!
- وضحي من كتابة المعنى أكثر.. " فقارئ الرسالة يحتاج لفهمها أكثر"..
أبتسم لمثلها الركيك الذي لا أعرف من أين أتت به تلك المتطفلة الشيقة.. فأقول..

- أحياناً لفرط عشقنا للمكان تسكننا الأحداث فيه لتغدو بنا.. كالأماكن التي وجدت بمحض اختيار مرتاديها..

ثم ولأظللها أكثر..
- وحده القلم يعلم بالمغزى الذي يسكبه الحبر من أجله..
قطعت الشك باليقين وراحت تحثني بالسير أسرع قبل مغيب الشمس..

***************
بينما هي كانت مستلقية بنعاس على السرير وهي تغمض عينا وتفتح أخرى..كنت جالسة على حافة سريري المجاور لسريرها أوضب ثيابي كي أدخلها الخزانة بعد أن جفت من ماء الغسيل.. ألتفت إليها وهي تحاول أن تبقى على آخر فترات يقظتها قبل أن أنام ربما سأحتاج لشيء ما.. وبصوت خفيف أناديها باسمها لترد علي بكسل..

- نعم.. أتريدين شيئا قبل أن أنام؟؟
- لا .. بل أريد أن أبوح لك بسر..

ما لبثت أن قامت وكأنها تنتظر هذه الكلمة بفارغ الصبر وكأنها أمسكت بمفتاح طال انتظار عثورها عليه..

- قولي.. أنا مازلت مستيقظة لا بل شعرت منذ جلوسنا على طاولة العشاء أن هناك شيئاً تريدين البوح به.
- أتعلمين أن صدفة السيلفرج حقيقية؟؟
- نعم أعلم .. ومن هو؟؟

أقول لها وأنا أكتم ضحكة من منظرها وهي تدعك عينيها من نعاس يغالبها..
- إنه شخص ربما أكون تأخرت بإخبارك عنه..

أستطرد كلماتي وهي تركز على كل حرف أنطق به..
- سأخبرك بأنه كان هناك حب جمعني ربما بالشخص الخاطئ.. عشت معه كذبة الحب..وما صدفة السيلفرج إلا تعزيز لهذا الحب الكبير.. الذي اكتشفت بعد سنوات أحرقت عمري انتظارا له..إنها خديعة.

تنظر لي بانتباه كامل وأنا أكمل سرد الحقيقة لها..
- كي أتخلص من ألم هذا الجزء من الذاكرة لا بد أن أتحدث وها أنا أتحدث إليك.
صمتّ كي أستعيدها في نفسي قبل بوحها لهيلينا المنشغلة بالإنصات والانتباه.. والنوم قد غادر أجفانها لتتسع عيناها الواسعتان أكثر ويبرز لونهما البني المخضرّ..

- "لا تدعي لأحد أن يمسك عليك ممسكاً .. حتى لو كنت أنا الذي أمامك"

لم تفهمني بل فهمت المغزى وراحت تحثني على بوح مناسبة تلك الجملة..التي زادتها غرابة وإعجابا..
- أجمل الحب يا صديقتي حين تتعلمين من الحبيب.. وتعرفينه جيداً لكنني عرفت منه في ما بعد .. الصمت والانتظار.. والخديعة.

ثم وأنا أعدل من جلستي وأقابل هيلينا وجهاً بوجه ولأول مرة أضع عيني بعينها وأتحدث بثقة وراحة أكثر..
- لم أشعر بوجودي من قبل..ولم أعترف بذلك المعنى في حياتي..ولم أتعلم إلا من هذا الحبيب الذي بدوره اليوم أصبح من عالم النسيان..

أسألها وهي صامته ساهمة بكلامي وثمة دمعة أداريها حين ذكرته.
- وها أنا استعيد بعده قصة حب موءود .. لذا اخترت الترحال.. والاكتفاء بالعناية بجدتي.. والبحث عن والدي.. وها أنا أتناسى..

ثم وأنا أختم كلامي وأشير ناحية قلبي وأقول..
- بعد كل هذه السنين التي هي بدورها أعطتني درساً بالحياة..تعلمت أن الحب لا يتوقف على شخص واحد.. بل إن الحب طاقة تدفع الإنسان كلياً لعمل ما يحبه ويتعلم كيف يحب كل شيء.. هذا هو الحب.. وهذه هي الصدفة وهذا هو الحبيب الذي اكتشفت في نهاية المطاف أنه (خدعة).
... بحت لها بما في قلبي.. وربما لو أعيد الزمن إلى الوراء وتعود تلك الصدفة.. وألتفت ليفاجئني ذلك الذي باغتني عند بوابة الخروج في السيلفرج.. عندها يبقى السؤال وينطق كل شيء بالإشارة لفرط روعتها.. وروعة منصور في لحظتها...
علت وجهها ابتسامة صادقة وهي تنظر إليّ وتقول..

- Il dolore tipo di verità
"الألم نوع من الصدق"

تسربت الأيام من بين أناملي لأودع من كانوا لي سكنناً في غربتي لم أشعر ولو للحظة إنني في بلد بعيد عن بلدي ويفصلهما بحر تسافر فيه الأفلاك.. أسير والطريق أمامي معبدٌ بأزهار قهرت جُلفة الصخور وقسوتها.. ويسير بقربي الجد فرانكو وصوت أجراس الكنائس تدق في أنحاء صقلية كلها فتتخلل صوت خطواتنا.. أقف بالقرب من الجد فرانكو وهيلينا وهو يشير نحو درب تحده زرقة البحر المتوسط..ثم نكمل السير نحوه بخطوات تجاري خطواته وعكازه التي كلما سار مسافة اتكأ عليها ليأخذ قسطاً من راحة لقدميه من جرح قديم أصابها ذات زمن.